
وصلَ واقعُنا العربي الأليم حدّاً لا يُوصَفْ من البؤس والقهر والتشتت والحرمان، بدءاً من حربِ الإخوة الأعداء التي يضيعُ فيها الفاصل بين الجلّاد والضحية. وبين دم القاتل ودم القتيل، وليس انتهاءً بتناقصاتٍ وتشابكاتٍ ومفارقاتٍ سياسيةٍ متتابعة ، لها استطالاتها العمودية والأفقية، والمتراصة والمتلاحقة (كالدومينو). حيث يعود كلٌ من الأكاسرةِ والأباطرة والقياصرةِ وملوك الحرب وأمرائهم لكن بثيابٍ تنكرية، زاهية ملونة، ويرطنون بلغةٍ جديدةٍ تليقُ بعصرِ العولمةِ وفقه التضليل المدججة بمفاهيم الوهم ،والتي تنتج أنواعاً من الشخصية المتمثلة بالشخصية السوية والشخصية اللاسوية ، وتأيرها الخطير في المجتمع ، والتي تنتج الشخصية السيكوباثية أي شخصية الشيطان على الأرض ،والشخصية البارانوية التي تشك بكل الناس. لكن ليس معنى ذلك أنَّ الحدودَ حذفت بين الحق والباطل والصواب والخطأ ، والخير والشر .بل لأن التضاريس كلّها مغطاة بالغبار والدخان والوهم، ولهيب النيران ورمادها. وثمة من يرطنون بنهاية التاريخ أمثال العالم والفيلسوف والاقتصادي السياسي (فرانسيس فوكوياما) أمريكي الجنسية ياباني الأصل ،صاحب كتاب ( نهاية التاريخ والإنسان الأخير) الصادر عام 1992، والذي جادل فيه بأن انتشار الديمقراطيات الليبرالية والرأسمالية، وفيما بعد السوق الحرة في جميع أنحاء العالم قد يشير إلى نقطة النهاية للتطور الاجتماعي والثقافي والسياسي للإنسان. كما رطن قبله البروفيسور والعالم والسياسي الأمريكي صاموئيل فيليبس هنتغتون، وهو مفكر محافظ، وصفته جامعة هارفرد بأنه معلّم جيل من العلماء في مجالات متباينة على نطاق واسع، وأحد أكثر علماء السياسة تأثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين.أكثر ما عُرف به على الصعيد العالمي كانت أطروحته بعنوان: (صراع الحضارات)، التي جادل فيها بأن صراعات ما بعد الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية لن تكون متمحورة حول خلاف آيديولوجيات بين الدول القومية بل بسبب الاختلاف الثقافي والديني بين الحضارات الكبرى في العالم.
إنَّ أطروحة (صراع الحضارات) تعمل على توليد جغرافيا جديدة وأطالس جديدة وترسم خرائط جديدة للعالم غير خرائط سايكس ـ بيكو ! لهذا لا نستغرب أبداً ما قاله كاتب فرنسي عن كون العرب استخدموا الدادائية وهي حركةٌ شِعريةٌ عبثيةٌ نشأَت في سويسرا عام ١٩١٦ أثناءَ الحربِ العالمية الأولى، وعبَّرت عن معاناةِ الشبابِ والمراهقين. والسوريالية التي تعني الواقعيّة الفائقة، فهي تحدٍّ للمنطق من خلال إلهام الأحلام وطُرق عمل العقل الباطن، والفن التجريدي في السياسة بدلاً من الأدب والفن.ولا نبالغ إذا قلنا إنَّ مسرحيات من طراز (بانتظار غودو) لمؤلفه الكاتب المسرحي والشاعر والناقد الأدبي الإيرلندي صموئيل بيكيت ،أو مسرحية (المغنية الصلعاء) للكاتب الروماني ـ الفرنسي أوجين يونسكو تبدو منطقية إذا قورنت بهذه (التراجيكو ميديا) التي نحياها يومياً بل كل ساعة حيث امتزجت المأساة بالملهاة على نحو غير مسبوق ولم تعد العديد من المقولات صالحة مثل مقولة (شرّ البلية ما يضحك) تليق بهذا الواقع الأليم العربي المُعاش ،لأنّ تبكي بقدر ما تصيب الناس بالدوار والقيئ وغبش العينين والذهول التام ،وعدم تصديق ما تقع عليه العين وما تسمعه الأذن على الرغم من الطنين المستمرفي حالة (مرض منيير) وما يشمّه الأنف من روائح على الرغم من الزكام والعطاس .فهل بلغ سيل الدم المهراق الزبى وليس الماء ، كما قال الأسلاف (وصل السيل الزبى)، أم أنّ هناك متسعاً للمزيد؟وهل بلغ الفقر والفاقة والمرض، والتخلف والأمية والجهل نسبة مئوية تكفي لإعادة النظر في كل شيء من جديد، أم إنّ هذا الثالوث الأصفر، والريح الصرصر سيصبحان خريطة بل خرائط لا نهائية ،وتضاريس لأمةٍ بأسرها وأسراها معاً في سجنها الكبير ؟ فلو قرَّرَ أبرز كتّاب مسرح العبث، أو ما يسمى مسرح اللامعقول وهم: صموئيل بيكيت الإيرلندي، وفردنالدو أرابال الإسباني ،ويوجين يونسكو روماني الأصل، فرنسي الجنسية .أن يكتبوا معاً مسرحية عبثية لا يعرف فيها دور البطل من دور الكومبارس، والغسق من الشفق، ونعيق الغراب من هديل الحمام. لما وجدوا أفضل من المَشاهد التي تعيشها منطقتنا من العالم.
بكل ألم نتساءل : إلى متى سنبقى نعيش هذا العبث ؟؟؟؟