يقع على عاتق المثقف بشكلٍ عام مهمة إنسانية وحضارية. ودور ريادي رئيسي في سيرورة المتغيرات البنيوية وتحولاتها منذ صيرورتها الأولى التي يتعرَّض لها المجتمع الذي ينتمي إليه .متسلِّحاً بعقلٍ نضر ،وفكرٍ تنويري طلائعي،وقناعات مبدئية راسخة مستندة إلى بعد أخلاقي ،تستهدف الواقع المعاش وتحالفاته السائدة، هادفاً في مسيرته تغيير كل الظواهر والملامح السوداوية من قهرٍ وظلمٍ وتخلّف وجهلٍ وفقر . 
لقد أكِّد الفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي في كتابه الهام : ( دفاتر السجن ) : أنَّ المثقف العضوي ليس ذاك الشخص الذي يملك حمولة معرفية هائلة في مجال ما. ويملك ثقافة معينة. بقدر ما هو ذلك الشخص المتشبع بالقيم الإنسانية ،وبفكر التنوير ،ويمتلك الوعي الشعبي الجماهيري بأكثر القضايا أهميةً وحساسيةً ومصيريةً. هذا الوعي ينطلق من رفضه القاطع والكلّي لكافة أشكال الاستبداد والطغيان والاستلاب الواقعة على كاهل أبناء المجتمع ،ويهدف إلى تحريرها كلياً من كافة الإكراهات والعمليات القسرية ،وإلى تحقيق سعادتها المنشودة في مجتمع تنتفي فيه جميع أنواع الاضطهاد والقهر والاستغلال والإذلال الذي تمارسه السلطة الطاغية الاستبدادية، فالمثقف هو الأكثر حساسيَّةً وفهماً لقضايا مجتمعِهِ واحتياجاتِهِ ومشاكِلِهِ، يتصدّى بوعيه وعقله ،وبما يملك من بنى معرفية وفكرية وثقافية ضد الأنظمة المستبدة الطاغية .ويعمل بكل ما يملك من إمكانيات على كشف زيفها وادعاءاتها الباطلة، وما تتضمنه من مخادعة،ومن رفعها لشعارات تخديرية فيها من الأوهام واللعب على العقول الشيء الكثير. فتتصدى له بدورها قمعاً وسحلاً وقسوةً، وتقصيه وتعمل على تهميشه أو تعمد إلى شرائه بأسعار بخسة ،واستخدامه بوقاً لها. فالأنظمة الطاغية المستبدّة تعمل على التجهيل وإفراغ عقول الناس ،وتضعف إرادتهم من القيام بأيِّ عملٍ يقف في وجه السلطة ورجالاتها،وتمنعهم من التفكير بحاضرهم ومستقبلهم للحفاظ على دوام سلطتها وفرض هيمنتها. لكنها غير قادرة على ممارسة سطوتها وقمعها وسحلها للأجساد .وقسرها دون إيناسها الرضوخ والانصياع والخضوع من رعاياها، فيتحمل المجتمع بكل تكويناته بذلك قدراً من المسؤولية في إدامة السلطة الطاغية المستبدة عندما يستجيب لها دون ردّة فعل موازٍ يجبرها على إعادة التفكير من جديد في ممارساتها السلطوية القمعية التي لا ترحم وليس هناك أبرع من المثقف حين يأخذ دوره الريادي في التحريض الإيجابي وتنظيم رد الفعل هذا، وحث المجتمع بكل فئاته وتكويناته على رفض إجراءات القمع والظلم والاضطهاد والاستئصال الموجهة ضده وضد مستقبل أبنائه. ولأنَّ السلطة الحاكمة المستبدة تتحكَّم بالموارد المالية والاقتصاد، وهو ما يساعدها أكثر على احتكار السلطة والتحكم بأقوات الشعب. كل ذلك يجري دون مراقبة أو محاسبة.
 
الوجه المقابل للمثقف العضوي المدافع عن حقوق الشعب هو مثقف السلطة، الذي لم يستطع الصمود طويلاً أمام المغريات المادية، والمناصب المتواضعة التي يبذلها النظام لكسبه ،وتنحيته عن طريقها ،وشراء ضميره وذمته، وهؤلاء توهن ثقافتهم وتضعف حتى تموت.عندما تستيقظ الجماهير من سباتها وتعي حقوقها ومصلحتها وتهب للدفاع عنها في وجهِ السلطات الجائرة والطغاة المستبدين. لقد قرأنا الكثير عن هؤلاء المثقفين المنتفعين الذي فقدوا دورهم الريادي في خدمة مجتمعهم لحساب السلطات. فأصبحوا رواد ثقافة معاقة. فقد قال الأديب السوري فيصل عليا: (إنني كلما سمعت كلمة مثقف سلطة أحسّ بالإقياء). لأنَّ هذا الصنف من المثقفين صار
 كما وصفهم جوليان بندا في كتابه (خيانة المثقفين). أو كما وصفه الكاتب الفرنسي سيرج حلمي في كتابه الهام (كلاب الحراسة الجدد) والذي تم انتاجه فيلماً سينمائياً. أو كما وصفه باسكال بونيفاس في كتابه ( المثقفون المزيفون). لقد قال وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلنز زمن زعيم ألمانيا النازية أدولف هتلر،: (كلما سمعت كلمة المثقف تحسست مسدسي) . 
لهذا فالمثقف العضوي مطالب أكثر من غيره في السمو على نزعاته الشخصية والخاصة والترفّع على الخلافات الثانوية مع أقرانه من المثقفين، التي غالباً ما تكون للسلطة المستبدة الحاكمة دوراً محورياً فيها ومحركاً لها، ليمارس دوره الطليعي في توعية أبناء شعبه والذود عن أهدافهم في مقاومة الظلم والقهر والفساد ،وعدم المساومة على القيم والأخلاق والمبادئ الإنسانية العليا. 
يزداد ويتعاظم دور المثقف في ظروف الاستبداد وسيادة الطغيان وازدياد القهر والتخلف والفقر والجهل، ويرتقي ليصبح ضميراً للمجتمع وتحديداً في مجتمعنا العربي،فالمثقف العربي يملك سلطة في تجديد الفكر العربي.باعتباره منتج وعي الناس، وقادر على الإبداع والعطاء، بمعنى أنه قادر على تغيير مفاهيم الناس وتصورهم لواقعهم. وتغيير المفاهيم والآراء والذهنيات فى إطار الثقافة المجتمعية، وتحرير الفكر العربي من المعوقات والحواجز التي تُقيده.فالمثقف العضوي لا ينتظر من أحد أن يسمح له بممارسة دوره الريادي في إنتاج الوعي والفكر الحر والتحريض عليه، بل عليه أن ينتزع هذا الحق بنفسه انتزاعاً ،حتى مع غياب شرط الحرية، فالمثقف العضوي هو المحرِّر الحقيقي، فهل يحتاج إلى من يحرِّره من القيود والعراقيل التي تضعها السلطات المستبدة في وجهه حتى يحرِّر الآخرين فيما بعد.المثقف العضوي يمتلك القدرة على طرح الأسئلة الهامة بموازاة قدرته على تقديم الأجوبة، فهو صاحب العقل والمعرفة والأفكار الجديدة، والأفكار لا بدَّ لها من قوى مجتمعية قوية وفاعلة تتلقاها وتتعامل معها بيسر ،وتنقلها إلى حيز الواقع بشكلٍ عملي، و إلا بقيت مهما كانت أفكار تنويرية و ثورية، حبيسة الرؤوس والمقاهي والغرف المغلقة .  
المكان الحقيقي لعمل المثقف هو في أوساط الجماهير، يتعايش معهم ويتبادل معهم الأفكار والمفاهيم والطموحات والمعيقات.لأن السلطات الحاكمة القمعية الاستبدادية وهي في قمة الانفتاح الذي تقدم عليه، تدع المثقفين يصرخون وتحوّلهم إلى ظاهرة صوتية، وكأنّ صرخاتهم صيحةً في واد، وتطبِّق مبدأها: ( دعهم يقولون ما يريدون، و دعنا نفعل ما نريد). نعم إنَّ المثقف والمفكر هو الذي يغادر برجه العاجي ليخاطب نبض الناس، ويستشرف لهم المستقبل، ويمتلك الأسلوب والمنهج العلمي فى تقديم الخيارات الأفضل، وطرح الأسئلة الاستشكالية واستتباعاتها، ويُحدث التأثير الإيجابي والقوي والفعَّال داخل مجتمعه وما يخص أبناء شعبه، خاصة على صعيد الفكر العقلاني والنقدي والتنويري والمعرفي. لقد غاب هذا الفكر، أو غُيِّب فى العقود الأخيرة، فترك فراغاً هائلا فى مجتمعاتنا العربية، وعملت الظلامية والجهالة والفقر والمرض، والطغاة والغلاة، والتخلف الفكري،على مَلئِهِ، فكثر اللغو،وانتشرت القصص والخرافات والأساطير، والشعوذة، وعمت الفتنة والفساد والمفسدين، وتقطعت الجسور وأواصر العلاقات المجتمعية ، وحضرت الفوضى وحصل الضياع وفقدان البوصلة . .
لنتذكر معاً سِرَّ الحياةِ الإنسانية السامية، فقد سعى الإنسان الأبدي نحو الجيد والأصح والأقوى ،ونحو التجدّد والتغيير والتطوير والتحديث، بفضل المثقف كي نفتح كُوةً فى جدار اليأس والاضطراب والقلق، ونشعل منارة الفكر والعلم والثقافة والمعرفة، وننشغل فى التجديد والتطوير، استعداداً للمشاركة الفاعلة في صنع المستقبل الأفضل لهذه الأمة وتحقيق تطلعاتها .
calendar_month30/01/2022 04:49 pm