
مما لا شك فيه أنَّ للسياسة أسرارها وتشعباتها وغموضها واستطالاتها، ويتطلب الخوض في فك شيفراتها وأسرارها العميقة وتحليلها، خبرةً وعلماً ومعرفةً وكفاءةً عاليةً على عميق إداراتها وآلياتها. لأنَّ وظيفة المحلل السياسي هو المسؤول عن البحث في الموضوعات السياسية مثل العلاقات الخارجية وجمع البيانات من مصادر مثل استطلاعات الرأي العام التي يتم نشرها، ونتائج الانتخابات بكل أنواعها ،والأيديولوجيات السياسية بتعددها، وكذلك استخدام التحليل الإحصائي لتفسير نتائج البحوث والدراسات، وتحتاج وظيفة المحلل السياسي إلى المعرفة الجيدة بالاتجاهات السياسية ودراسة تطور النظم السياسية العامة التنبؤ بالاتجاهات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ،وتقييم الثقافات والايديولوجيات السياسية وتقديم التقارير الغير متحيزة.
في السنوات الأخيرة، شاهدنا فى وطننا العربي، أعداداً كبيرةً من (المحللين الاستراتيجيين) على القنوات الفضائيات العربية، حتى غدت ظاهرة مفزعة ومقلقة تسهم فى إرباك المشاهد حيناً، وفى تزييف وعيه ،ولي عنق عقله أغلب الأحيان.فقد تزايدت أعداد هؤلاء(المحللين) إلى درجة تفوق عدد نجوم الفن على اختلاف مشاربهم وألوانهم، فمنهم العرَاف والمنجِم، ومنهم (الخبير) الذي يعلم بالغيب ويرجم به، أو يروِّج لسياساتٍ عابرة لا أهمية لها، تتماهى مع سياسات القناة الفضائية التى تستضيفه، ويُدوِر زوايا موقفه ويثلثها ويربعها ويجعلها مستطيلة، تبعاً لذلك، وبخاصة بعد أن تضيف القناة تعريفاً بملكاته ومؤهلاته وخبراته التي قد يستغرق عرضه زمناً، فهو (خبير فى العلاقات الدولية والسياسة الخارجية والداخلية، واستراتيجيات الدول المحلية والإقليمية والعالمية والكونية والدول العظمى، وأكاديمي وناشط حقوقي واجتماعي ومؤلف ومبرمج) ووو.. إلخ. التحليل السياسي يستند الى مجموعة من القيم والمبادئ والعناصر التي تمهد الى استنتاجات وتوقعات تعادل تنبؤات أو استشرافات مستقبلية في العواقب والنتائج، التي تقود بدورها اليها طبيعة وتركيبة الحدث السياسي الذي هو موضوع التحليل السياسي أو مادته، وتقف في مقدمة هذه العناصر الأطر المفاهيمية والاصطلاحية التي تشكل مرجعيات القدرة في النظر العميق والتحليل السياسي السليم، وتكون تلك الأطر والمفاهيم الساندة لها تعبير مباشر عن حذق النظر السياسي ونضارة عقله ونباهته، وتخضع بطبيعة الحال الى اعتبارات المصالح الاستراتيجية والتكتيكية، والرغبات .وليس بالضرورة تعبير عن نظريات سياسية محدّدة سواء كانت بعيدة المدى أو متوسطة أو قريبة المدى، وهو دائما ما يطمح المحلل السياسي إلى الاستناد اليها والاعتماد عليها واستثمارها. لذا نجد هناك قواعد عديدة لفن التحليل، وهناك شروط موضوعية تتطلب وعياً معرفياً وقدرات عقلية خاصة، ويملك ومعلومات كافية حول الموضوع المراد تحليله، وإدراكا لأدوات التحليل السياسي، ومناقبية مهنية، تستدعى الأمانة الخالصة فى رواية الخبر ،والتأكد من صحته قبل تقديمه وروايته على الناس ، وعدم الخضوع للنزوات والنزعات الخاصة النارية الآنية، أو التعامل مع المصالح الصغرى دون الالتفات إلى القضايا الأساسية الاستراتيجية، أو اعتبار اللحظة الراهنة المعاشة وكأنها لحظة مؤبدة وممتدة إلى النهاية ،ولا تحتمل التغيير.
من جهةٍ أخرى نجد أنَّ من يتنطّح لعملية التحليل السياسي في كثير من الأحيان لا يملك المهنية والتخصص العلمي والأكاديمي في مجال التحليل السياسي هو الذي يمنع هؤلاء الأفراد من تصويب وتوجيه منهج التحليل السياسي بما يتفق وسياسات ومصالح الدولة العليا ،إلا بشكلٍ سطحي وانفعالي وعاطفي، ويبدو أنَّ الكثرة غير المنطقية في أعداد القنوات التلفزيونية والاذاعية التي انتشرت كالفطر، والتي توزعت على أعداد الأحزاب والقوى والتيارات السياسية ،والاشخاص هي التي تتسبب جزئياً وبشكلٍ لافت في تزويد تلك الوسائل الإعلامية واستتباعاتها واستطالاتها ولغرض ذرائعي في الترويج لهذه الوسائل وللجهات القائمة عليها ،والممولة لها ،في تزويدها بمبرر إطلاق أسم أو عنوان المحلل السياسي على كل ضيوف البرامج السياسية والاخبارية في الاعلام الرسمي العربي وغير الرسمي، وهكذا يتحول لدينا المحلل السياسي الى ظاهرة اعلامية تتراجع بشكلٍ خطير في ظل انتشارهذه الوظيفة المهنية والاستشارية التحليلية في السياسات المحلية والاقليمية والدولية ،وهي تشكل أساس صلب وظيفة المحلل السياسي ودوره الهام.