شهد التاريخ الإنساني عدد قليل من حالات إنشاء القوانين والتشريعات والنظم التي تسعى إلى الحفاظ على حقوق الإنسان مقابل الحروب والغزوات والمجازر، والظلم والقهر ،والسبي وتجارة الرقيق التي تعرَّض لها الإنسان عبر مسيرته التاريخية .غير متناسين ما دعت إليه الأديان من حبٍ وتسامحٍ .كما دعت إلى تحقيق الحقوق الإنسانية والعدالة الاجتماعية. وكان أول وثيقة في التاريخ البشري حول حقوق الإنسان وثيقة حلف الفضول .وحلف الفضول هو أحد أحلاف ما قبل الإسلام الأربعة التي شهدتها قريش ،وقد عقد الحلف في دار عبد الله بن جدعان التميمي القرشي أحد سادات قريش وذلك بين عدد من عشائر قبيلة قريش في مكة المكرّمة، في شهر ذي القعدة سنة 590 م بعد شهر من انتهاء حرب الفجّار بين كنانة وقيس عيلان، هذا الحلف توافق عليه بنو هاشم وبنو تيم وبنو زهرة حيث تعاهدوا فيه على أن: (لا يظلم أحد في مكة إلا ردوا ظلامته). وقد شهد الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم هذا الحلف قبل بعثته وله من العمر 20 سنة، وقال عنه لاحقاً) لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت). وتلاها الحديث الشهير مطلع الدعوة إلى الإسلام :(الناس سواسية كأسنان المشط الواحد،لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى). هذه المقولة تؤكد على الحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته.أيضاً كما جاء في قول الخليفة العادل عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص عندما ظلم أحد المتسابقين الأقباط حيث قال عبارته الشهيرة أيا عمرو! :(متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟). 
       في العصر الحديث أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1948 م عن تشكيل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان باعتباره (أول وثيقة قانونية) تحدِّد حقوق الإنسان الأساسية التي يجب حمايتها عالمياً. ولا يزال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،يشكل أساس جميع قوانين حقوق الإنسان الدولية المعتمدة. كما توفرمواده التي وصل عددها إلى ثلاثين مادة أو مبدأ. تشكل في مجموعها مبادئ اتفاقيات ومعاهدات حقوق الإنسان الحالية والمستقبلية،وغيرها من الاتفاقيات والصكوك القانونية الأخرى، وركائزها. 
وحقوق الإنسان هي حقوق نتمتّع بها جميعنا لمجرّد أنّنا من البشر، خلقنا الله سواسية كأسنان المشط، ولا تمنحنا إيّاها أي دولة أو جمعية أو حزب أو منظمة.هذه الحقوق العالميّة متأصلة في جميع البشر، مهما كانت جنسيتهم، أو نوعهم العرقي أو الاجتماعي، أو أصلهم الوطني أو دينهم، أو لغتهم، أو لونهم، أو أي وضع آخر. وهي متنوّعة تنوعاً كبيراً وتتراوح بين الحق الأكثر جوهرية، وهو الحقّ في الحياة الإنسانية الكريمة التي يجب أن لا تُمس، لأنَّ حقوق الإنسان هي التي تجعل الحياة جديرةً بأن تُعاش بأمنٍ وسلامٍ وطمأنينة، مثل الحق في الغذاء والصحة والتعليم والعمل والحرية والديمقراطية. 
     تكتسب قضية حقوق الإنسان زخمها وإلهامها من المعاناة الإنسانية نفسها، بخاصة في حالة الحروب والجائحات والثورات، وانتشار الفقر والجوع والحرمان الاجتماعي والإنساني وازدياد الطمع والجشع والاستغلال البشع للإنسان ومقدراته. كذلك حالة الاعتقالات والمشانق، وقهر الشعوب المغلوبة على أمرها تحت سطوة الاحتلالات الأجنبية الظالمة.
 الحدير بالذكر أنَّ حقوق الإنسان لم تنشأ بمصادفات الحوادث والظروف اللا إنسانية القاهرة ،ولا اخترعها أحد بداعي التآمر. فقد كانت الثورة الفرنسية نقطة تحول هامّة وفاصلة في التاريخ الإنساني، حيث أفضت إلى صعود طبقات اجتماعية جديدة ،وأفكار جديدة مغايرة لما سبقها .وذبول طريقة في الحكم تنتسب إلى زمن القرون الوسطى الأوروبية ومآلاتها. فعلى الرغم من مرور أكثر من قرنين على اندلاع الثورة الفرنسية التي مرَّت بعدة مراحل والتي استمرت من 1789 حتى 1799 م، فإن السجال الحاد حول وقائعها وتحولاتها وأبطالها الذي أخذ مداه ،لم يمنع الإقرار العام بدورها الجوهري والأساسي في تغيير مسار التاريخ الإنساني وتأثيره على الآخرين.
 يعزى للثورة الفرنسية أنها أطلقت جملة من الأفكار والآراء والمفاهيم الأساسية في الحقوق والحريات العامة إلى آفاق لم تكن متخيلة لدى المجتمعات المحيطة بها من بلدان العالم الغربي .بعدها اختلف بصورة جذرية عما كان قبلها في الحصاد الأخير للثورة ، حيث بقيت قيمها الكبرى تؤثر وتلهم حكم الشعوب، وتوارثت صفحاتها الدموية والنارية، وازدادت مع ازدياد قصص المقاصل التي أطاحت بالرؤوس وتعفّن أجساد المساجين وتقيّحها قبل أن تصبح جثثاً هامدة.
 لقد كان لتجارب الثورة الفرنسية الغنية الفضل الأساسي في صياغة وتوثيق بنود العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي تبنته هيئة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية. متناسين الدور الهام لوثيقة حلف الفضول التي تعتبر أقدم وثيقة في التاريخ البشري تعمل على صيانو قوق الإنسان .واعتبروا أن ما جاءت به الثورة الفرنسية هو الأصل لأنه نشأ من قلب المعاناة وهي ضرورية تدفع باتجاه تحقيق عهد دولي يحفظ الحق في الحياة الإنسانية الكريمة ،ويصون الحريات والحقوق الأساسية ويصونها بصيغ قانونية منضبطة بشكلٍ مميّز.
 بعد مرور عشرات السنين جاءت الثورة السوفييتية لتلعب أدواراً جديدة لا يمكن التقليل من شأنها أو الاستهانة بها وما قدمته في إلهام فكرة بناء عالم جديد أكثر عدلاً .حيث طرحت فكرة العدالة الاجتماعية والحقوق العامة. أفضل ما يُنسب إليها أنها ساعدت على نحو جوهري في طرح قضية العدل الاجتماعي بمفاهيم جديدة وبأفق أكثر حداثة.
 وفي سياق مماثل لعبت الثورة الصينية التي بدأت عام 1946م بعد نهاية الحرب اليابانية الصينية الثانية أكثر الأدوار أهمية في شرق آسيا، حيث بدأت عام 1946م بعد نهاية الحرب اليابانية الصينية الثانية فقد نجح الصينيون في الانتقال من الثورة إلى الدولة، حيث كانت الثورة تتويجاً لحركة الحزب الشيوعي الصيني نحو تولي السلطة بعد أن تأسس في عام 1921م. في وسائل الإعلام الصينية هذه الثورة معروفة باسم حرب التحرير. ومن التخطيط المركزي الصارم إلى الانفتاح الاقتصادي المدروس، بأقل كلفة سياسية ممكنة ودون خسائر، وأسسوا واحدة من أكثر التجارب استقراراً وقوة بزخم التراكم.
 من جهتها طورت الرأسمالية من نفسها تحت ضغط الأفكار والمفاهيم والآراء الاشتراكية، ونشأت في ظل الدول الغربية حركات جديدة أطلق عليها اسم (الشيوعية الأوروبية) بتأثير أفكار رجال من حجم الزعيم الشيوعي الإيطالي بالميرو تولياتي الذي قاوم فاشية موسوليني، والفيلسوف والمناضل الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي. في إيطاليا فقد دمجت ما بين الفكرتين الاشتراكية والديمقراطية. وكانت قد نشأت في أوروبا الشرقية نزعة قوية أطلق عليها (الاشتراكية بوجه إنساني) تجسدت في )ربيع براغ). وهي مرحلة من تاريخ الجمهورية الاشتراكية التشيكوسلوفاكية. حيث طرحت بقوة الأفكار والتصورات المبدئية والخاصة بحقوق الإنسان، على الرغم من الأخطاء العديدة والمثالب والعيوب الكبيرة ، فقد ألهمت التجربة السوفييتية السابقة أكثر من أي تجربة أخرى الجيل الثاني من حقوق الإنسان بتبني هيئة الأمم المتحدة العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية.
 لقد تم توظيف قضية حقوق الإنسان في الدعايات السياسية والأيديولوجية في سنوات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، ودول الغرب الأوروبي حين كان العالم منقسماً أيديولوجياً واستراتيجياً واقتصادياً وسياسياً بين معسكرين كبيرين يتصارعان على النفوذ والسيطرة والقوة.
 يركز التحالف الغربي بشكلٍ عام على انتهاك الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية لدى الطرف الآخر في الصراع الدولي المحتدم ،فيما القطب السوفييتي السابق يطعن في أوجه غياب العدالة الاجتماعية والإنسانية لدى الحلفاء. أما في سنوات ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 م انتصرت الثورتين الفيتنامية والصينية، في تلك المرحلة الهامة من التاريخ البشري انتفضت حركات التحرير الإفريقية بطلب الاستقلال الوطني والحرية والانعتاق من الظلم والقهر،ورفعت حركات التحرير في أمريكا اللاتينية سلاح حرب العصابات ضد السيطرة والهيمنة الأمريكية، كما حدث في كوبا التي صمدت تحت وقع العقوبات الأمريكية. من هنا كانت الدساتير الوطنية الحديثة تنطوي على الحقوق الإنسانية والاجتماعية بكافة تجلياتها ونصوصها المنضبطة وإيقاعها العام، ومن بينها استقلال القرار الوطني والسيادي.
 كان كل ما حدث تأسيساً للجيل الثالث من حقوق الإنسان التي تتبعها الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية ، والحق في التحرر والاستقلال الوطني وتقرير المصير ،وتحقيق السيادة. لم يضمه عهد دولي ثالث، لكنه فرض نفسه بقوة من خلال عدالة القضية وإرادة الشعوب الحية التي تنشد الحرية والديمقراطية وتحقيق حقوق الإنسان على أكمل وجه .
 في هذا السياق لم يكن وطننا العربي خارج هذا الاستقطاب الفكري والسياسي، الذي صاغ تلك المرحلة .مع العلم أنَّ أسس حقوق الإنسان ظهرت لأوَّل مرة في التاريخ البشري في بلادنا العربية كما أسلفنا .
استكمالاً لما جرى في التاريخ السياسي العالمي حاولت مجموعة دول عدم الانحياز بقيادة الرئيس الراحل (جمال عبدالناصر) من مصر،والزعيم (جواهر لال نهرو) من الهند ،والرئيس (جوزيف بروز تيتو) من يوغوسلافيا ،اختراق النظام الدولي الثنائي القطبية بين المعسكر الغربي الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو، وبين المعسكر الشرقي الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو.وتأسيس آخر وفق مبادئ (باندونغ) العشرة. فقد انعقد المؤتمر الأول للحركة في بلغراد عام 1961م وحضره ممثلو 25 دولة.
 ألهمت ثورة حزيران التي قادها الرئيس جمال عبد الناصر والضباط الأحرار، الجيل الثالث من حقوق الإنسان بأكثر من أية تجربة تحررية أخرى، حققت في الوقت نفسه اختراقاً كبيراً غير مسبوق في التاريخ المصري كله بقضية العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان.
 كل ما نرجوه أن تتحقق العدالة الإجتماعية، والحقوق الأساسية والسيادية للمواطنين هذا ما يجب أن نتعلمه من التاريخ. لا فصل ولا مقايضات بين الحقوق الأساسية للمواطنين السياسية والاجتماعية والمدنية والاقتصادية والتحررية، والقيم الإنسانية والأخلاق السامية وجميعهم يكونون على قدر المساواة.
calendar_month11/02/2022 08:44 am