من المؤكد أنّ الكتَّاب والمبدعين لهم تأثير كبير على الناس من خلال نتاجهم مهما كان شأنه أو تنوعه. من هنا يطرح كثير من المهتمين بالشأن العام، موضوع دور الكتّاب والمبدعين العرب وتقصيرهم في الحوار والانفتاح على الآخر. والتقصير له أسبابه العامة وأسبابه الخاصة ،لكن يُنسَب الكثير من سوء فهم الغرب لقضايانا العربية المصيرية لهذا التقصير. إن الحوار مع الآخر، من وجهة النظر الغربية تلك، هو السبيل لتغيير ذلك، بما يخدم مصالح أمتنا العربية، أو على الأقل، تحقيق قدر مقبول من التفهم لمصالحنا. ففي هذا الاتجاه، تخطر لنا جملة من الخواطر، حول مفهوم (الأنا) و(الآخر).
أولى هذه الخواطر، أنّ المجتمعات الإنسانية،موجودة بالفعل وليست كتلاً هلامية لا معنى لها كما يظن البعض. إن التقسيم الحاد بين (الأنا) و(الآخر) يفترض تجانس وانسجام كلّ قطب من أقطاب المعادلة على حدة،من خلال التجاذب. أو تنافر هذا القطب مع الآخر. وهذا في حقيقة الأمر، تبسيط وفصل تعسفي، ينقصه الوعي العقلاني بوجود تناقضات ومصالح وتوجهات مختلفة داخل المجتمع الواحد، وأنّ الأمر لا يمكن وضعه في كفة ميزان واحدة عن كل طرف، أو الكيل بمكيالين.
فهناك على سبيل المثال، نسبة كبيرة لا يستهان بها، من الأوروبيين، تتعاطف مع القضية الفلسطينية، وحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، فوق تراب وطنهم. وحين قامت إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش عام 2003 م باحتلال العراق، أصدر مثقفون أمريكيون بارزون ولهم شأنٌ كبير في بلادهم والعالم، بيانهم الشهير (إنها ليست حربنا). وهذا لا يعني توافق المجتمع الأمريكي بأكمله، على إدانة تلك الحرب أو شجبها، أو رفضها، فقد وقفت إلى جانبها قوى سياسية وطبقية من داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وقدمت لها مختلف أشكال التأييد.
لقد أثبتت تلك المواقف بلا ما لا يدع مجالاً للشك، أنّ المجتمع الأمريكي، شأنه شأن المجتمعات الإنسانية الأخرى، ليس بالمجتمع المتجانس والمنسجم في مواقفه السياسية الداخلية أو الخارجية أو الاثنين معاً. إن شأنه في ذلك شأن بقية المجتمعات في العالم، يتفاعل مع ما يجري من حوله. وليس بالضرورة أن ترتبط المواقف السياسية بالوعي، والمبادئ السامية والالتزام الأخلاقي، ولكن، وذلك في الغالب، ترتبط ضمن اعتبارات المصالح، وهي اعتبارات أكثر وجاهة في عُرف المنتفعين والبراغماتيين ، ومدراء الشركات الكبيرة والكارتيلات الضخمة وأصحاب رؤوس الأموال، والحكومات التي ترعى مصالحهم.
وثانية هذه الخواطر، أن الحديث عن (الآخر)، ينسحب أيضاً على (الأنا) فمجتمع الأنا، وتحديداً هنا مجتمعنا العربي، ليس مجتمعاً ساكناً أو منسجماً، ولا يعيش خارج التاريخ ولا خارج السياق . إنه في القلب من هذا العالم الواسع المترامي الأطراف، يتأثر به ويؤثر فيه. وتحكم العلاقات بين أفراده ومكوناته، قوانين الوحدة والتشريعات وقوانين التجاذب والتنافر. وهو أيضاً خاضع لصراع المصالح، واختلاف الرؤى والتوجهات والأهداف، داخل كل قطر على حدة. 
لقد أصبحت الدولة الوطنية مع مرور الأيام، واقعاً لا بدَ منه ومعترفاً به، ومقبولاً من قبل طبقات وشرائح اجتماعية واسعة ومؤثرة، على الرغم من كثير من الظواهر السلبية التي نتجت عنها والتي كان لها استحقاقاتها. إن ذلك يعني في حقيقة الأمر أننا أمام أكثر من (أنا) وأكثر من (آخر). و(الأنا) العربي تحمل عبر طياتها تناقضها،أي تناقض البعض مع بعضه الآخر، بشكل أصبح معه متعذراً الحديث عن موقف واحد ، أو رأي واحد موحد، وأنا واحدة. وقد تعاظمت الانقسامات والشروخ، وتعددت الطرق والمنافذ، وتضاربت المصالح بشكل دراماتيكي، منذ أكثر من أربعة عقود، واستمرت في التصاعد بسرعة، وتفتّت عرى المجتمع الواحد وتم تقسيمه في عدد كبير من البلدان العربية، بعد اندلاع ما بات يُعرف بـ (الربيع العربي). بات الآخر، يهيمن على القلب النابض والمحرِّك من (الأنا).
الجدير بالذكر أنَّ هناك قضايا إنسانية لا يمكن إغفالها. حيث أنه ليس ممكناً الفصل بين ما هو إنساني، مبني على أساس اعتبارات (الأنا) و(الآخر). وأن الأمر الذي ينبغي قبوله والتوافق معه في عملية الإبداع والفن والكتابة، هو أننا لسنا قطباً واحداً أوحداً في مواجهة قطب آخر، بل إن المواجهة الحاسمة هي في داخلنا، وضمن طبقاتنا وشرائحنا الاجتماعية، كما هي مواجهة في قلب الآخر، وضمن طبقاته وشرائحه . من هنا يجدر التمييز، بين ما هو إنساني وقائم على أساس المصالح المشتركة بين الأطراف، والتفاعل مع الشعوب، وبين رفض الاستغلال والهيمنة والاحتلال والإجلاء والإحلال، بكافة طبقاته وشرائحه ومكوناته وأصوله وجنسياته المتعدِّدة.أيضاً إذا سلمنا جدلاً، بأهمية تفعيل الحوار مع الآخر، فإن هناك مشروعية أخرى لهذا الحوار، لا تقل وجاهة وأهمية، ولها أرجحية مؤكدة عليه، هي حوار (الأنا) مع (الذات). أي إقامة مراجعة داخلية حقيقية بين الداخل وقلب الداخل.كل ذلك من أجل معرفة كيف يمكن في ظل انعدام التعددية واحترام الرأي والرأي الأخر، أن يتحقق حوار متكافئ مع الذات؟ وهل يمكننا الحديث عن حوار بنّاء مع الآخر، قبل إصلاح مجتمعاتنا العربية مما تعانية ومما تواجهه، وتمكين (الأنا)، بكل طبقاته وشرائحه، من الحوار مع (ذاته)؟!
نحن لا نغفل الحقيقة القائلة أننا نقف على أبواب، انتقال تاريخي عالمي مرير وشديد وعصيب، لن يمكننا من أخذ مكاننا الحقيقي بجدارة فيه، دون أن نملك القوة والشجاعة الكافية، لمعالجة قضايانا الأساسية والهامشية. إن ذلك يتطلب وجود مؤسسات وهيئات وجمعيات تحتضن المبدع والمفكر والفنان على حدٍ سواء، وتؤمِّن له البيئة المناسبة للتعبير عن ذاته من أمنٍ وأمان وفسحة من الديمقراطية. ذلك هو المدخل الصحيح، لكي تزهو مجتمعاتنا العربية وتنمو بشكلٍ سليم، ويتحقق الحوار البنَّاء المنشود، بين مختلف الطبقات والشرائح، في خندق (الأنا) ومع (الآخر) ، وفي خندق (النحن ) و (الهُمْ).
calendar_month19/02/2022 12:15 pm