إزاء ما يشير إليه المأزق النهضوي العربي من خلل وعجز وقصور، ثمة من يلقي التهم واللوم والتبعة على المفكرين والمثقفين العرب، متهماً إياهم بالمنهزمين من المعارك الوطنية والقومية، وبالقصور والعجز أو بالاغتراب عن الواقع ، كما يتم اتهامهم بالنخبوية التي تعيش في قصورعاجية ،والابتعاد عن قضايا الناس وهمومهم ،والتأدلج الفج المباشر، ما يطرح إعادة التفكير من جديد في علاقة المفكّر والمثقف بالمجتمع ودورهما الهام في الارتقاء به من خلال إبداع رؤية نهضوية عربية تجديدية. هكذا هي الثقافة والفكر العربيين اللتان كانتا قد وصلتا إلى مستوى مرموق، ومن ثم انحدرتا ولا تزالان جامدتين دون أي تفاعل مع العصر الحديث ومتغيراته، فالثقافة العربية بدأت تجتر نفسها دون مراجعة وتسير وفق نمطٍ معين من دون أن تملك القدرة على تجاوز بنية عقلية أو فكرية معينة. وفيما بعد تم القيام بمحاولة إعادة الانسداد الحضاري التاريخي الإنساني الذي يعانيه العرب إلى أسباب ثقافية، فقد اعتبر بعض المفكرين أن مشكلة المثقف في الدرجة الأولى مع أفكاره ،وما يطرح من آراء ومفاهيم، وأنَّ المثقفين العرب تخلوا عن الفكر النقدي في مرحلةٍ ما، لانعدام جرأتهم. ورأى غيرهم أنّ المثقفين العرب لم يبادروا إلى نسج سياقات فكرية وعقلية ناضجة ،تحقق الأمن الفكري والاجتماعي والثقافي المنشود .
الفكر العربي المعاصر يحتوي تراثاً تنويرياً حقيقياً أسهم في كتابته وصياغته وتحديثه وتطويره كتَّاب وأدباء ومبدعون وفنانون كبارعاشوا خلال القرن العشرين معنا وبين ظهرانينا، أو احتضنتهم المنافي حين ضاقت بهم الأوطان. لقد عاش تنويري القرن العشرين مأساة رومانسية الحلم والرقي وتقدّم العرب، هذه الرومانسية كمنت في غياب فاعليتهم ودورهم المجتمعي وما رتبه ذلك من حالات عقلية ونفسية شديدة السلبية. بدأت بالتعامل مع الواقع بطريقةٍ بعيدة عن الموضوعية والجدية، واتسمت بالتعامل مع الواقع بسخرية واضحة،رافضة التغيير والتطوير والتحديث ،ومرّت بالرؤى العدمية والبوهيمية ومحاولة إرضاء (الأنا) بحلول فردية يلفظها الضمير الحي ولا يقبل بها. وانتهت بشعورعميق بالفقدان والعجز والرغبة في مواصلة الطريق حتى النهاية ،والاستسلام لمصائر الطغيان والاستبداد والتأخر المؤكد .
لقد اعتدنا في حواراتنا العربية الساخنة ونقاشاتنا الحادَّة في مجال النهضة العربية على تفسير حجم مأساة المفكر العربي، مشيرين فقط إلى عوامل مثل طغيان واستبداد الحكومات السلطوية التي تحتقر التفكير الحر والطاقات الإبداعية الكبيرة، وهيمنة المؤسسات والهيئات والجمعيات التقليدية العشائرية والأبوية التي تعمل على إعاقة التغيير نحو الأفضل. غير أن نقد الحكومات السلطوية المستبدة التي تمارس الطغيان والتقاليد البالية، تحتاج إلى سند وظهير جماهيري كبير.وعلى الرغم من محورية هذا النقد وأساسيته، لا يمثل في هذا السياق سوى وجه واحد من وجهي العملة المتداولة. أما الوجه الآخر فيرتبط بالمفكرين العرب أنفسهم ورؤيتهم وتطلعاتهم الذاتية لموقعهم وحدود دورهم المنشود.
في هذا السياق يمكننا أن نتساءل بمشروعية حول: لماذا يعجز مفكرو التغيير والتطوير ودعاة التنوير العرب عن مقاومة الطغيان والاستبداد ومواجهة الحكومات السلطوية المستبدة ؟ والقصد هنا في هذا السياق ليس مجرد وجود أصوات نقدية لمفكرين عرب ينشدون التقدم والتطور ويطالبون بالتغيير الديمقراطي، فبلادنا العربية لم تعدم مثل هذه الأصوات بكل تأكيد. بل المقصود هو حضور مفكرين مرموقين يستطيعون الانتقال بنقدهم وما يطرحونه من مفاهيم إلى مرحلة ثانية عمادها الفعل السياسي السلمي الفاعل على أرض الواقع لإحداث التغيير والتطوير المنشودين. وتحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية تخص جميع أفراد وشرائح المجتمع. وبغض النظرعن احتمالات النجاح أو الفشل، والتي تعتبر حلقة مفقودة في وطننا العربي لم تستطع السير بعد على طريق البناء الديمقراطي السليم. إنَّ تحويل الفكر إلى حقيقة مجتمعية يخدم الجميع وهو الذي يضفي على أصوات المفكرين النقديين المصداقية العالية، والشرعية الأخلاقية القادرة على تحريك المواطنين بكل فئاتهم الاجتماعية من أجل المطالبة السلمية بالتغيير.وتحويل الفكر العربي الحر إلى حقيقة مجتمعية خالصة هو ممارسة للسياسة، تتجاوز بشكلٍ واضح صياغة البيانات التي تنادي بالديمقراطية وكتابة المقالات والدراسات الناقدة للحكومات السلطوية المستبدة والطاغية. 
إنَّ ما نملكه من قناعة كبيرة يؤكِّد أن العجز عن مقاومة الاستبداد والطغيان، وعن الوقوف سلمياً فى وجه الحكومات السلطوية المستبدة طلبا للتغيير والتطوير والتحديث دون هدمٍ أو فوضى، إنما يتعلق من جهة بإيمان أغلبية المفكرين العرب بكون الدولة الوطنية ومؤسساتها وهيئاتها وإداراتها، هي الوحيدة القادرة على إحداث التغيير البنيوي وليس المجتمع وفعالياته، وكوننا نعلم بأنَّ باب الديمقراطية إنما ينفرج فقط من خلال إقناع الحكومات ونخبها الضالة بجدوى التحول الديمقراطي وضرورته. أما حين ترفض تلك النخب (الضالة) التغيير والتطوير والتحديث وتتمسك بامتيازاتها الشخصية، وذلك هو حال النخب العربية التي فقد معظمها البوصلة ،خاصة فى أعقاب انتفاضات ربيع ٢٠١١م، فنجدها تنزع إلى السكون والخنوع ورفض التغيير خوفاً من الهدم والفوضى العارمة التي ممكن أن تحصل، وتجنح في الغالب الأعم إلى تفضيل أوضاع الاستبداد والطغيان والاستقرار المجتمعي وإبقائه على ما هو عليه، هذا الذي تعد به على حساب طلب إقرار الحريات وحقوق الإنسان، وحق الرأي والرأي الآخر،وسيادة القانون ،والتداول السلمي للسلطة. ومن جهة ثانية، نجد أن عدداً كبيراً من المفكرين العرب تتملكهم نظرة ذاتية لموقعهم ودورهم العام في المجتمع والدولة قوامها الانفصال عن خريطة القوى المجتمعية وتشعباتها واستطالاتها. ولا يعرف أغلبية المفكرين العرب هويتها النقية الصافية على نحو يرتبط عضوياَ بالمجتمع وواقعيته وحقائقه وآماله، بل تشدّد على الانفصال الزماني والمكاني عن المجتمع الذي تم وصفه بأنه مجتمع (رجعي) و(متأخِّر) و(متخلّف) ،وغير ذلك من التوصيفات السلبية المرفوضة. حيث تنتشر عبارات مثل (أنا كمثقف( وأقوم بدور هام وضروري، ودوري هو النقد والتحليل وتبيان الحقائق والعمل المجتمعي على الشعب، والواضح هنا في هذا المقام أنَّ عمل هؤلاء المفكرين بعيد كل البعد مواجهة الحكومات السلطوية المستبدة الطاغية، بل فقط تعمل على توعية الناس بضرورة الطلب السلمي على التحول الديمقراطي بعيداً عن العنف، وهذا ما ينشده مفكري التغيير والتطوير والتحديث ودعاة التنوير العرب في أحاديثهم، وبذلك يتم تعميم الفهم الطليعي المزيف لدورالمفكر وأهميته ومسؤولياته .إنَّ ما ترتّب في التحليل الأخير وما وصلت إليه نتائج مواقفه،هو تواصل الجمود المجتمعي وفشل مساعي التغيير والتطوير والتحديث .وازدياد القمع من النظم الطاغية والمستبدة .
calendar_month22/02/2022 12:20 pm