
يبدو أنّ الأزمة الحادة الحالية التي تعيشها أوكرانيا في صراعها ما بين جمهورية روسيا الاتحادية ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) تعدّت حدود جغرافية ذلك الصراع. فالمشكلة القائمة ليست مشكلة إقليمية، بل هي أوسع وأشمل بكثير مما يمكن أن يتوقعه المرء ،وهي مشكلة تخص العلاقة المضطربة والمنزوعة الثقة بين روسيا من جهة والولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الغربيين من جهة أخرى، ونحن ندرك حقيقة الصراع الظاهر والخفي بين كل تلك الأطراف بخاصة وأنّ هذه العلاقة لم تكن يوماً على ما يرام منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في 14 آب 1945 م التي تم الإعلان عن استسلام اليابان، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق إلى اليوم. وعلى مدى نحو ثلاثين عاماً بقيت المشكلات والأزمات تتراكم والاحتقان يتعاظم بشكلٍ غير مسبوق ،حتى وقعت هذه الأزمة الفادحة في أوكرانيا. ومقارنة بسابقاتها من القضايا والمشاكل الدولية فهي الأعنف والأقسى على الإطلاق، وتداعياتها واستطالاتها أكبر بكثير من التوقعات المعلنة على مختلف المستويات الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية والسياسية، لأنها لا تتصل بحرب سريعة وخاطفة، وإنما بإعادة هيكلة النظام الدولي من جديد، وفي القارة الأوروبية على وجه التحديد. ويبدو أن جمهورية روسيا الاتحادية التي طالبت بضمانات أمنية من الغرب لم تتلق الجواب الذي تأمله وترغب في تثبيته وتحقيقه دولياً، حتى وقع المحظور، وهو ما عبّر عنه القادة الروس الكبار مراتٍ عدّة، وحذَّر منه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أكثر من مناسبة وأكثر من لقاء مع بعض قادة دول العالم خلال الأيام الماضية.
ومما لا شك فيه أنَّ التصعيد الدراماتيكي الذي تشهده العديد من دول الإقليم المجاورة لجمهورية أوكرانيا، وما تشهده أوكرانيا بالذات خلال هذه الساعات الساخنة بفعل التحرك العسكري الروسي، يمثل لحظة حرجة لأوروبا المنضوية تحت لواء حلف شمال الأطلسي (الناتو) والعالم أجمع، قد تفتح الباب على مصراعيه أمام تداعيات سلبية حادّة على مستقبل الأمن والسلام الدوليين، إذا لم تسارع جميع الأطراف بما تملك من حضور سياسي إلى تدارك الموقف، وخلق فرصة مناسبة لحل الأزمة بالحوار بالطرق الدبلوماسية، والبحث عن أسس جديدة تحفظ المصالح المتبادلة لجميع الأطراف.
فعلى الرغم من صعوبة الظرف وقسوته، والهواجس السوداء المؤلمة، التي تخيم على أوروبا بشقيها الشرقي والغربي، مازال هناك مجال للدبلوماسية كي تلعب دوراً بناءً وهاماً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وردم الهوّة بين الأطراف المتنازعة، ولا يتم ذلك إلا بالعمل على خفض التصعيد العسكري والإعلامي الذي يؤجج المواقف، وتجنب كل المعيقات وكل ما يوتر العلاقات. فما عاشته القارة الأوروبية في الساعات الماضية أعاد إلى الأذهان السياسات والخطابات السابقة التي تعود إلى أرشيف الحرب العالمية الثانية وما قبلها، ولكن مجريات الواقع بين فترةٍ وفترة ،وبين عصرٍ وعصر لا تتشابه أبداً ،ولا تتشابه بالنتائج أيضاً.
لقد تابعنا مجريا مؤتمر ميونخ الذي استثنى روسيا وما جرى من خطابات نارية ضد روسيا ومحاولتها الحفاظ على أمنها القومي وما تعتبره الحديقة الخلفية لبلدها، وكان من نتيجة كل تلك السياسات فرض عقوبات قاسية على جمهورية روسيا الاتحادية وبحثه عن أخرى . لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد تم عقد سلسلة من الاجتماعات التي لم تتمكن أي منها من إيجاد حل للمشكلة الأساسية في الصراع .
وما يزيد الأمر تعقيداً، وجود الطرف المقابل في روسيا، وهذا ليس بالأمر الهيِّن أبداً، وسيزيد من تعقيد المشكلة نتيجة تمسكه بمواقفه وشكل ردة فعله، بل إن الرئيس بوتين أطلق تحذيراً غير مألوف على الصعيد السياسي الدولي عندما قال مع بدء العملية العسكرية (أي طرف سيحاول إيقاف، أو تهديد روسيا أو شعبها، يجب أن يعلم أن ردّنا سيكون فورياً، وسيؤدي إلى عواقب غير مسبوقة لم تشهدوها في تاريخكم، نحن مستعدون لأي رد فعل) .
ما نراه في سياق هذا التصعيد المتبادل بين روسيا وخصومها الغربيين يجب أن تتوقف فوراً، والأزمة الأوكرانية يجب حلها أيضاً بالطرق السلمية وبالأساليب الدبلوماسية الناعمية ،وتفادي أي خسائر أو دمار يمكن أن يحدث، واحترام حقوق كل الشعوب والأمم في العيش بأمنٍ وسلام. وإذا كان هذا العالم متحضراً بالفعل، كما يدّعي، عليه أن يعمل بكل ما يملك من إمكانيات وعلى وجه السرعة بالسيطرة على هذه الأزمة ،وإخماد نيرانها بروح القانون الدولي وأخلاقيات المبادئ الانسانية، و حقن دماء التضحيات المشتركة التي يمكن أن تسفك وكذلك ما شهده العالم من تضحيات مشتركة التي سفكتها الحروب المدمِّرة الماضية. أما التصميم على تجاهل الكوارث والأخطار المحدقة، والإمعان في صم الآذان عن سماع أصوات السلام والأمن والأمان، فسيقود البشرية حتماً إلى محرقة جماعية، أواتها نووية وأسلحة الدمار الشامل ،تلك الحرب لن تكون فخراً لأحد، ولن تجلب غير الخزي والعار على هذه الحقبة من التاريخ الإنساني التي نعيشها.