
من الواضح أن الحروب لم تقف عند مجالات الدبلوماسية والسياسية وإنما تتطوّر لتصل إلى حدود مياد\ين القتال وقعقعة السلاح .هذا هو واقع حال الحرب التي تدور الآن في جمهورية أوكرانيا، بعدما بدأ الجيش الروسي عملية عسكرية واسعة من عدة جبهات ضد أراضي جمهورية أوكرانيا، فقد أكّدت القيادة الروسية إنها تستهدف تحقيق أمن جمهورية روسيا الاتحادية بالحؤول دون انضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، بعدما فشل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشار الألماني أولف شولتس في إنجاز تسوية سياسية على طاولة المفاوضات وفشل دبلوماسية الهاتف.ونتيجة لهذا الفشل اختارت روسيا ميدان القتال لتحقيق أهدافها ومراميها، على الرغم من كل التهديدات الغربية التي انطلقت من كل صوب وحدب، محذرة روسيا وقيادتها وشعبها من العواقب الوخيمة جراء أي اعتداءعلى أوكرانيا.
في هذا السياق نتساءل هل وضع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في حسابه كل التداعيات وارتداداتها والمخاطر الكبيرة المحتملة؟ وهل كان يدرك تماماً ما يقوم به ووضع من أجل ذلك مسبقاً كل الاحتمالات والتقديرات والخطط والتداعيات الخطيرة ؟
يبدو أنه حتى لحظة كتابة هذه المقالة أنَّ مجريات المعركة في الميدان تشير إلى أن الرئيس الروسي ومعه القيادتين العسكرية والسياسية يعرفون ماذا يريدون، ويدركون تماماً إلى أين يمكن أن تصل الأمور، وهم وضعوا في الميزان كل حسابات الربح والخسارة الممكنة والنصر والهزيمة.على الرغم من حق جمهورية أوكرانيا في اختيار شركائها وحلفائها الاستراتيجيين كونها دولة مستقلة وذات سيادة ، إلا أنَّ عليها أن تدفع ضريبة موقعها الجغرافي والجيواستراتيجي الملاصق لجمهورية روسيا الاتحادية، وعليها أن لا تعوّل على ضخامة الدعم الغربي السياسي والعسكري والاقتصادي، الذي كان سبباً في ذهاب أوكرانيا بعيداً في تحدي روسيا، وشجعتها في ذلك تهديدات غربية مبالغ فيها بتكبيد روسيا أثماناً باهظة وغير مسبوقة ، وهو ما أدرك الرئيس فلاديمير بوتين أنه مجرد (شيك بدون رصيد) .وأنَّ كل التصريحات والصيحات الإعلامية ليست إلا بروبوغندا إعلامية لتحقيق مآرب استراتيجية ومنها زيادة الضغط على أوروبا وزيادة إلحاقها بركب الولايات المتحدة الأمريكية .
في هذه الحرب غير المتكافئة يبدو لنا أن أوكرانيا ستكون الخاسر الأكبر والوحيد في هذه المجابهة لأنها لن تجد سوى التنديد والشجب واستخدام العقوبات الاقتصادية والمالية على روسيا التي حسبت كل حسابات ما سيجري ، التي يبدو أنها عرفت بشكلٍ مسبق ما يمكن أن يأخذ من قرارات غربية أطلسية ضد روسيا وكانت روسيا قد وضعت ذلك في حساباتها قبل أن تقرر دخول المعركة بشكلٍ جاد وعملي على أرض الواقع، بمعنى أن الغرب الأوروبي الأمريكي سيكون عاجزاً عن تقديم أكثر من ذلك. بالمقاييس العسكرية الصرفة، لانه من غير المعقول المقارنة أبداً بين الجيش الروسي والجيش الأوكراني من حي العدة والعدد والقدرات العسكرية الهائلة ، لذلك فإن قدرة روسيا على تحقيق أكبر مكسب ميداني، سواء في إقليم دونباس أو في المناطق الأوكرانية القريبة من الحدود الروسية، ومن بينها العاصمة الأوكرانية كييف، ليس أمراً صعباً، لكنها ستعمد إلى مبادلة ذلك بتحقيق أهداف سياسية سبق أن أفصحت عنها كانت قد رسمتها بعناية فائقة ، وهي ضمان الأمن القومي الروسي في إطار الأمن الأوروبي الأوسع والحفاظ على الحديقة الخلفية لروسيا ؛ أي إبعاد حلف شمال الأطلسي (الناتو) عن حدودها الغربية، وعدم انضمام أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا إلى الحلف، إضافة إلى عدم وجود قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي في رومانيا وبلغاريا ، على أن يكون ذلك في إطار تعهد وضمانات موثقة دولياً.
يبدو أن القيادة الروسية تريد تصميم بنية أمنية أوروبية جديدة تتناسب طرداً مع أمنها القومي، وضمان توسيع نطاقها الجغرافي والسياسي والجيواستراتيجي شبيه بما كانت عليه في الحقبة السوفييتية السابقة ، وستواصل ضغوطها العسكرية على أوكرانيا لتحقيق أهدافها ومراميها وما كانت قد خططت له. إما من خلال قبول أوكرانيا بكل شروطها، أو بانقلاب عسكري قوي تشجع عليه القيادة الروسية يفرض نظاماً جديداً موالياً لها وخاضعاً لسياستها ، كما كان الحال قبيل ما بات يعرف بــ (التظاهرات البرتقالية) عام 2014 م التي أطاحت الرئيس فيكتور يانكوفيتش.