جميع الحروب في العالم تؤكد بأنها بحاجة ماسة وضرورية إلى إيديولوجيا، إذ يصعب على أي طرف من الأطراف أن يشارك في حرب دولية أو إقليمية من دون أن تكون لديه سردية إيديولوجية يقدّمها لشعبه أو للعالم الخارجي وما وراء الحدود الوطنية وحتى الحدود القومية، وفي الحرب الدائرة رحاها الآن على الأراضي الأوكرانية، ثمة حاجة لدى جميع الأطراف المنخرطة في الحرب إن كان على الصعيد العسكري أو السياسي بشكلٍ مباشر أو غير مباشر للاتكاء على سرديةٍ ما، حيث تشكِّل تلك السردية إطاراً أيديولوجياً، من رؤى وأفكار ومفاهيم ومرجعية قانونية، بل وأخلاقية، فالسياسيون والقادة على اختلاف مشاربهم، وحتى الجنود بحاجة كبيرة للإحساس بأنهم ينطلقون في حربهم من موقف أخلاقي له أسسه ومرجعياته، فإطلاق النار يحتاج إلى شرعية قانونية وأخلاقية، وكذلك فرض العقوبات مهما تراوحت نسبتها. والشرعية هنا ينبغي ألا تتشكّل فقط من المصالح العارية، بل تحتاج إلى سند أخلاقي عام، يجعل من الآخر عدواً بامتياز، ينبغي تحجيم نفوذه وتحطيم قوته وإخضاعه، بل وشطبه من الخارطة السياسية والجغرافية إذا تطلّب الأمر.
 في المواقف الرائجة أيديولوجياً في هذا الزمن المصيري من تاريخ كوكبنا الأرضي، ثمة محاولة لتصوير الحرب بأنها صراع بين منظومة ديمقراطية ـ ليبرالية وبين المنظومة شمولية يتم وصفها في الغرب الأوروبي بالاستبداد والطغيان، هذا من جهة ، أما في الإعلام الروسي فهي حرب ضد ما أطلق عليه (النازية) الأوكرانية، ومن ورائها ما أطلق عليه (الرأسمالية المتوحشة)، وهذا الاستدعاء القسري للأيديولوجيا يمكن فهمه على أرضية الحاجة لتبرير الأهداف والمواقف العسكرية والسياسية والأمنية والاستراتيجية، لكن هل يمكن فعلاً لأي تبرير أيديولوجي سائد منذ زمنٍ بعيد أن يصمد أمام التحليل الاستراتيجي والتاريخي للصراع الدامي الدائر الآن بين جمهورية روسيا الاتحادية والغرب الأوروبي والأمريكي؟
 هناك أسئلة عديدة تطرح نفسها بقوة منها: هل علّة الحرب فعلاً في اختلاف المنظومات الأيديولوجية لأطراف القوى المتصارعة ؟ إنَّ هذا السؤال يحيلنا بالضرورة إلى واقع النظامين الاقتصاديين القائمين في روسيا والغرب الأوروبي، وهما في الحقيقة ينتميان إلى نظام واحد لاغير هو النظام الرأسمالي، مع تفاوت في درجات رسوخ القيم الرأسمالية العالمية بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وبين جمهورية روسيا الاتحادية، فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي السابق في عام 1991 م، توجّهت جمهورية روسيا الاتحادية نحو نظام السوق الرأسمالي، وتخّلت بشكلٍ تدريجي أحيانا وبشكلٍ متسارع أحياناً أخرى عن آليات النظام الاشتراكي الذي كان سائداً فيها لما يقارب من سبعين عاماً، وبناءً عليه، فإنَّ الصراع الحاد هو صراع بين نمطين من أنماط الرأسمالية، ينتمي كلّ واحدة منهما إلى تاريخ تطوّره وأهميته ودوره الخاص.
 في النصف الأول من القرن الماضي أي في ثلاثينات القرن العشرين، شهدت القارة الأوروبية والعالم صعوداً قوياً للأيديولوجيات، وقد مضت النسخة القومية الخاصة والمميزة بصيغتها الألمانية إلى أقصى الراديكالية، في الوقت الذي كانت فيه الأيديولوجيا الشيوعية قد رسّخت مكانتها وسطوتها في الاتحاد السوفييتي السابق، أما الليبرالية فقد كانت في حالة صعود مستمر ودون توقف مع تنامي دور الولايات المتحدة الأمريكية عالمياً، وحين تعرّضت النسخة الراديكالية للقومية في أوروبا الغربية والشرقية لانتكاسة مع خسارة ألمانيا للحرب العالمية الثانية، بقيت الساحة العالمية مكاناً للصراع الدائر بين الليبرالية من جهة، والشيوعية من جهة أخرى، وذلك طوال فترة الحرب الباردة، إلى أن تفكّك الاتحاد السوفييتي السابق إلى دول، وسارع عدد من دوله للدخول في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، مع تحّول كبير في نمط إنتاجه نحو الرأسمالية بكامل قواعدها وأسسها ومنهجها . 
 العالم اليوم ومعه أوروبا أمام سيناريوهات عدة، لا يقلّ أحدها عن غيره كارثية، فبغضّ النظر عن النتائج العسكرية والأمنية والاستراتيجية، وما تمتلكه من أهمية كبيرة، إلا أن النتائج السياسية ستكون حاسمة في رسم ملامح العالم لعقود ربما تكون طويلة، خصوصاً على مستوى النظام الدولي، وعلاقات القوّة الحقيقية في داخله، وبين أطرافه المتعدِّدة الكبرى والمتوسطة والصغرى، لكن هذه المرّة، وعلى خلاف ما حدث في نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 م، سيكون من الصعب إيجاد تصوّر أيديولوجي له خصائصه ومتماسك تستند إليه السياسات، بل يمكن القول إنها المرة الأولى التي يشهد فيها العالم مثل هذا الارتباك، وهذا الضياع على صعيد ضعف التبرير الأيديولوجي للحرب القائمة بكل معاييرها.
 قد تكون الأيديولوجيا بما تحمل من نهج وأفكار ومفاهيم، في أحد أكثر تعريفاتها شهرة، رؤية غير مطابقة للواقع نهائياً، لكنها، وعلى الرغم مما تتمتع به من زيف وخداع، قادرة بدرجة كبيرة على خلق توازن ما بين الأطراف المتصارعة بمعظم تكويناتها، يجعل بالإمكان حدوث تسوية ما، كتلك التي أوجدتها على سبيل المثال لا الحصر (اتفاقية يالطا) بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945م، وأنتجت شكلاً من أشكال السلم العالمي لا يمكن إغفاله.
 لم يعد الصراع الدائر اليوم بين شرق وغرب بالمعاني الأيديولوجية التي تمتلكها هذه الثنائية ولا بقواعدها وإرهاصاتها، بل هو صراع لتحديد مكانة ودور كل طرف من تلك الأطراف المتصارعة في النظام العولمي، وبالتالي تحديد سلّم التراتبية في هذا النظام الذي يأخذ صفة العالمية، ما يجعل من أية محاولة لاستدعاء الأيديولوجيا إلى هذا الصراع الدامي بلا أية قيمة من الناحية العملية، بل مجرد عملية تجميل وإيهام وخداع غير متقنة لاستخدام أشكال مختلفة من العنف والعنف المضاد، لكن، ولهذا السبب بالضبط، سيكون على العالم أجمع أن يعيد ضبط الساعة الأيديولوجية التي يسير وفق دقاتها وسرعة دوران عقاربها، وإلا فإن ما سيكون هو مجرد صراعات ساخنة ودموية غير مضبوطة أخلاقياً على الإطلاق.
calendar_month07/03/2022 07:37 pm