
تعالت العديد من الأصوات في معظم بلدان الغرب الأوروبي والأمريكي، والمتناقلة من أعلى السلطات هناك تأكيدها أنَّ الانتخابات تعتبر الوسيلة الناجعة والفعالة والشرعية لصنع القرار الجماعي في المجال السياسي العام. وعلى العكس من ذلك، وفي ما يتعلق بمسائل أخرى هامة وخطيرة مثل الحرب والسلام، والتوزيع الاقتصادي والتجاري، والرعاية الصحية ،والرفاهية البيئية، والإسكان، والتعليم، والرفاهية الاجتماعية، فإن المجالات التي تكون فيها النتائج الجماعية مهمة، إما أنها تعتبر اقتصادية وتجارية ومالية بطبيعتها، أو أن الممثلين المنتخبين في الرئاسات والبرلمانات والبلديات يخضعون للأسواق، ويمنحون سلطة اتخاذ القرار للمدافعين عن الشركات، والكارتيلات الضخمةومجمعات الصناعات الحربية،أو يتصرفون بالإجماع عبر الاختلافات والتناقضات الإيديولوجية المزعومة. بعبارة أخرى وبصراحةٍ تامة، لا علاقة للمفهوم الليبرالي للسياسة بصنع القرار الجماعي.مع أنَّ الليبرالية هي فلسفة سياسية تأسست على أفكار الحرية والمساواة. وتشدد الليبرالية الكلاسيكية على الحرية في حين أن المبدأ الثاني وهو المساواة يتجلى بشكل أكثر وضوحاً في الليبرالية الاجتماعية.فإذا لم تكن الانتخابات هي المكان الصريح والواضح الذي يتم فيه اتخاذ القرارات السياسية، فإن معناها ووظيفتها يختلفان كثيراًعما هو مفهوم على نطاق واسع. أما بالنسبة للانتخابات الثانية على التوالي في العديد من إدارات الدول بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، فإن اثنين من السياسيين الأقل تفضيلًا في التاريخ الأمريكي يمثلان مجموعة الخيارات والتوافقات التي تتحدث عما يسمى بفراغ (العملية). وفي خضم الانغماس الانتخابي وتحديداً الانتخابات الرئاسية ،يكون الإصرار على أن الشخصية والمضمون هما الجوهر الواحد الذي لا يتبدّل، ومن هنا كان الوعد ب(إعادة الكرامة إلى الرئاسة) كبديل جاهز وقوي للرعاية الصحية الملائمة، وإصلاح البيئة، والتوظيف الهادف بأجر معيشي، والمشاركة السياسية الحقيقية التي يمكن تجسيدها على أرض الواقع .
إن النموذج السائد المستخدم لشرح السياسة الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية هو النموذج الليبرالي الذي ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، والتي برزت كحركة سياسية لها ميزات خاصة خلال عصر التنوير، عندما أصبحت تحظى بشعبية كبيرة بين الاقتصاديين والفلاسفة في العالم الغربي. فقد رفضت الليبرالية المفاهيم الشائعة في ذلك العصر من امتياز وراثي ودين للدولة، وملكية مطلقة للحاكم والحق الإلهي للملوك. غالباً ما يُنسب لفيلسوف القرن السابع عشر جون لوك الفضل في تأسيس الليبرالية باعتبارها تقليداً فلسفياً مميزاً. جادل جون لوك بأن لكل إنسان في هذا العالم الحق الطبيعي في الحرية والتملك والعيش بحياة كريمة .وأضاف أن الحكومات يجب ألاّ تنتهك هذه الحقوق وذلك بالاستناد إلى العقد الاجتماعي. مع أنَّ الليبراليون يعارضون المحافظة التقليدية ويسعون بكل ما يستطيعون لاستبدال الحكم الديكتاتوري المطلق في الحكومة بحكم الديمقراطية التميلية وسيادة القانون .ومنذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قام الأثرياء وأصحاب الشركات الضخمة والشركات العسكرية الخاصة،والكارتيلات بتحويل الرعاية المرضية الربحية إلى مخطط ابتزاز طبي من خلال إيقاف التغييرات والتبدلات في نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة الأمريكية. ولا يعبر السياسيون الوطنيون عن وجهة نظرهم هذه حول الرعاية الصحية العامة بل يمكّنون الأغنياء وأصحاب الشركات والكارتيلات الضخمة من ابتزاز إيجارات الرعاية الصحية من العاملين والفقراء ومن عامة الشعب الذي لا يملك سوى قوت يومه.
وعندما ضرب فيروس كوفيد 19(كورونا) الجديد، تمثلت الغريزة الأولى للطبقة السياسية الحاكمة في سلب تريليونات الدولارات من الأسواق المالية، من خلال إنشاء جسر اقتصادي مؤقت للعمال وصغار الكسبة. وللمرة الثانية خلال اثني عشر عاماً، يتم إخبار الشعب أنه لا توجد أموال كافية للبرامج العامة الضرورية مثل Medicare for All، ولكنّ هناك أموالاً ضخمة غير محدودة لوول ستريت. وهذا يدعم بقوة النموذج الماركسي للرأسمالية كدعم من الدولة لرأس المال والأغنياء وأصحاب الشركات الكبرى وأصحاب مجمعات الصناعات الحربية .
من هنا يتبين بوضوح لماذا يكون النموذج السياسي الليبرالي لمجالات متباينة ومتفارقة من الحكومة والتجارة هو تلفيق وخداع وكذب ذو دوافع إيديولوجية. لكن الروح النيوليبرالية هي الحوكمة الخاصة، وتكامل قوة السلطة الخاصة وقوة سلطة الدولة لصالح رأس المال والأغنياء فقط. وهذا يرتبط بالسياسة الانتخابية بشكلٍ أو بآخر من خلال الوهم بأن الحكومة هي عالم متميز يحكمه المواطنون ومن أجلهم. وأنِّ النيوليبرالية هي حكم رأس المال ومن أجله فقط. وقد كانت بمثابة الروح السياسية السائدة والتي استمرت طويلاً وكانت أيضاً بمثابة الثنائية الحزبية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ أواخر أربعينات القرن الماضي، ولكن بشكل خاص منذ النصف الثاني من القرن الماضي أي منذ السبعينات.
إن الحوكمة وهي النشاط الذي تقوم به الإدارة عن طريق رأس المال ومن أجله تعني أن الملّاك والمراقبين في رأس المال - الأغنياء والمديرين التنفيذيين للشركات الضخمة، والشركات عابرة القارات وعابرة القوميات، هم من يقرّرون النتائج السياسية. لأنّ الحومكة تتعلق بالقرارات التي تحدد التوقعات، أو منح السلطة، أو التحقق من الأداء. وهي تتألف إما من عملية منفصلة أو من جزء محدّد من عمليات الإدارة أو القيادة.
إنّ إعادة الكرامة إلى الرئاسة تكمن في ورقة الاقتراع التي يضعها المقترع في صندوق الانتخابات. والطبقة السياسية تقدم نفسها على أنها (تكره العنصرية) لكنها لا تحبذ الفصل العنصري في الرعاية الصحية. وتدين الطبقة السياسية (عدم المساواة) بينما تسحب في طريقها تريليونات الدولارات عبر عمليات إنقاذ لأثرياء والهدايا الثمينة، بينما تترك الطبقات الفقيرة والأقل شأناَّ تناضل عن نفسها.
وبشكل مثير للشك والقلق، فإن النموذج السياسي الليبرالي مسيطر ومهيمن بقوة بمعنى أن الأشخاص الذين يدعون أنهم يعرفون أفضل، (أي الاشتراكيون) هم تقريباً معرّضون بشكلٍ عام لمكائده وخبثه وخداعه. لكن للأسف، تلك العبودية الكاملة المستشرية، والإبادة الجماعية، التي دامت ثلاثة قرون متواصلة باعتبارها الدولة الأكثر عسكرية وتسليحاً في تاريخ العالم على الإطلاق، دفعت أجيالًا من الفقراء والمعدمين إلى عيش حياة قصيرة مريرة ووحشية فيها كل الظلم والقهر الإنساني.