لم تعد القوانين والتشريعات والآليّات المعتمدة رسمياً في مواجهة ظاهرة العنف ناجعة بما فيه الكفاية، لا على المستوى الوطني، ولا على المستوى القومي، ولا على المستوى الدولي، خصوصاً أن العنف والحقد والكراهية أصبحوا ظاهرة متفشّية بشكلٍ خطير، وهذا الخطر مستشري على النطاق العالمي بكل تكويناته.
ويعتبر العنف بكل أشكاله من منظور بعض المدارس الفلسفية الغربية الحديثة ظاهرة بشرية خطيرة جبل عليها الإنسان منذ وجوده على الأرض. ولتقنين هذه النزعات البيولوجية العنيفة الخطيرة للإنسان ــ أي جعلها قانونية ــ احتكرت الدولة مجال العنف بموجب القانون والدستور لردع الأفراد والجماعات المتطرفة والجماعات والأفراد الخارجين على القانون. والدولة التي اتبعت النظام الإسلامي قامت بدورها في صورتها المبكّرة بأن جعلت ما بات يعرف بـ (العنف الجهادي) وسيلة الدولة الدينية لنشر الدين الإسلامي والتوسّع على نطاق العالم. بيد أنّ الجديد في هذا المجال الهام هو اضطلاع الحركات الدينية الإسلامية الحديثة بهذا الدور، أي قامت قيادة الاخوان المسلمين وقيادة الجهاد بوصفها تسعى بشكلٍ مباشر لإعادة أمجاد الإسلام وتاريخه وانتصاراته في الفتح بعد محاولات التحديث والتطوير وسقوط الخلافة العثمانية إثر الهيمنة الاستعمارية الغربية وسيطرتها على مقدرات الشعوب.
 وبالرغم من انتشار أفكار السلام والأمن والأمان، وارتفاع رصيد الدعوات اللاّعنفية في العالم، إلاّ أن حلم السلم الأبدي الذي استحوذ على عقل الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط الذي عاش في القرن الثامن عشر، لا يزال بعيد المنال وغير متحقق، بل إنَّ الأمر ازداد تعقيداً وصعوبةً وعسراً، حيث تعاظمت وتفاقمت وتيرة الحروب والصراعات والنزاعات المسلّحة على صعيد العلاقات الدولية والمجتمعات والأفراد، وفي داخل كل بلد، بما قاد إلى الانفصام بين السلطات الحاكمة وما تملكه من شرعيّة سياسية، من جهة، وبين المشروعية القانونية، أي حكم القانون الناظم من جهة ثانية.لأنَّ العنف كان قد اتخذ أشكالاً متعدّدة وبعداً له علاقة بالهويات الدينية أو المذهبية طائفياً وقومياً ( إثنياً).وقد اتخذ العنف أشكالاً وبعداً له علاقة إثنية ممزوجاً بالعنصرية المفرطة .
وهذا ما يذكّر بالحروب الدينية - الطائفية الدامية التي شهدتها أوروبا بين البروتستانت والكاثوليك، بما عرف ﺒ (حرب المائة عام) وهي صراع طويل بين فرنسا وإنكلترا، وقد دام ذلك الصراع نحو116 سنة من (1337 حتى 1453) م، و(حرب الثلاثين عاماً) وهي سلسلة صراعات دامية مزقت أوروبا بين عامي (1618 و1648) م .وقعت معاركها بدايةً وبشكل عام في أراضي أوروبا الوسطة وتحديدا ضمن أراضي ألمانيا الحالية العائدة آنذاك إلى الإمبراطورية المقدسة، ولكن اشتركت فيها تباعا معظم القوى الأوروبية الموجودة في ذاك العصر،فيما عدا روسيا وإنكلترا .التي راح ضحيّتها ملايين البشر، ففي ألمانيا وحدها زاد عدد الضحايا من الرجال على ثلاثة عشر مليوناً ونصف المليون من مجموع عدد السكان البالغ ثلاثين مليوناً.
 وفي العالمين العربي والإسلامي ساهم العنف في تعطيل التنمية وتعقيد الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وعمّق من تصدّع العلاقات بين دولها إلى حد غير مسبوق، وزاد من تمزّق النسيج المجتمعي العربي والإسلامي، ما أدّى إلى تدهور أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية بشكلٍ خطير، خصوصاً حين ارتبط العنف بالمسوّغات الدينية والطائفية والمذهبية المستندة إلى مفاهيم مرتبطة بالماضي البعيد، وتفسيرات وتأويلات إقصائية وتهميشية وبعضها عدائي ضد الآخر، فتحت يافطة ما بات يعرف بــ (الجهاد) انساقت مجاميع متعصّبة ومتطرّفة هائجة ،رعاعية ، تحمل سلوكاً كما تم وصفه بأنه (همجي) لإعلان حالة الحرب ليس على الخارج الأجنبي (الكافر) الاستكباري الغريب، كما تبرّرأفعالها فحسب، بل على الداخل المختلف مع آرائها وتطلعاتها ومعتقدها، المنافس، الخصم أو العدو، وذلك تحت مزاعم فقهية مشوهة وغير منسجمة مع بنية وأساس الدين الحق، ولا علاقة لها بفكرة الجهاد في الإسلام التي لها شروطها ومواصفاتها واستحقاقاتها المعروفة، والتي لا تنطبق على أعمال القتل والعنف والإرهاب المنفلت من عقاله، والتي تقوم بممارساتها الجماعات الإرهابية الخارجة عن القوانين والتشريعات الناظمة للدول والحكومات باسم الدين لأهداف سياسية معظمها خارجية ،وتبريرات تطاوسية استعلائية أو ادعاء أفضليات على الآخرين، أو زعم بامتلاكهم وحدهم للحقيقة وهذا غير صحيح على الإطلاق. فكيف يجتمع الدين مع الكراهية والانتقام والحقد والبغضاء ؟ فغاية جميع الأديان هي تحقيق الخير والسلام والعدل والتكافل الاجتماعي والكرامة الإنسانية.
 لقد أكّد عدد كبير من المفكرين والفلاسفة وكبار المثقفين أنّ هذا الأمر يعود لضعف الدولة الحديثة وفشلها الذريع في احتكار العنف وتقنياته كجزء رئيس وهام من مشروعيتها القانونية، ويقصد بهذا أنه على الدولة أن تستخدم قواتها (العنفية) التي يشرعها القانون والدستور وتقوم بضبط هذا العنف بحدوده الدنيا وحصر كل أنواع الأسلحة بيدها فقط. وحماية أمن وسلامة المجتمع وأمانه، والحفاظ على النظام العام بما يضمن السلامة للمواطنين، خصوصاً في البلدان التي انهارت فيها سلطة الدولة ونظامها القانوني وغدت إلى ما قبل الدولة، أو شهدت حروباً ونزاعات وصراعات مسلّحة حادة جداً، وهو ما حصل في العراق الشقيق بعد احتلاله عام 2003م من قبل القوات الأمريكية وقوات التحالف الغربي، خصوصاً بانفلات العنف الطائفي والمذهبي والإ ثني، وبات القتل على الهويّة أمر عادي في عام 2006 م ،ومثل هذا الأمر حصل في سورية واليمن وليبيا، وقبل ذلك حصل في لبنان الذي شهد مجازر مروعة بين صفوف السكان الآمنين ابتداءاً من مجازر تل الزعتر وانتهاءً بمجازر صبرا وشاتيلا وما بينهما، وفي العراق قامت المجموعات المسلحة والإرهابية، وتحت عناوين الهويّة، إلى وضع نفسها فوق سلطة الدولة التي عملت على تعويمها بشكلٍ مخيف، أو عدم الاعتراف بها مستعيضة عنها بميليشيات إجرامية مدعومة من الخارج.
  في هذا السياق يمكننا القول إن الجماعات الإرهابية المسلحة التي تمارس العنف لا تعدّه وسيلة لتحقيق غاياتها وتلبية احتياجاتها الأساسية بقهر الخصوم والأعداء وقتلهم فحسب، بل يصبح عند تضخيم الهويّة شرط أساسي يتعلق بالوجود، وهذا الوجود لا يُستكمل إلاّ بالحرب باسمها، وذلك أقرب إلى المجتمعات البدائية الماقبل القوانين والتشريعات التي لا تعرف نفسها إلاّ من خلال الحرب والغزو، فبالحرب تتشكل أو تكتمل هويّاتها القاتلة، ولعلّ هذا العنف (الهويّاتي) هو الأكثر خطراً على الإنسانية لأنه عنف إلغائي وإقصائي وتهميشي وإحلالي يقوم على التناحر والتضاد الذي لا يمكن حلّه إلاّ بالقضاء على الآخر والتخلّص منه نهائياً، أو استسلامه بشكلٍ كامل دون أية مقاومة على طريقة المصارعة الرومانية القديمة التي تبدأ في الحلبة أمام الجمهورحتى الموت النهائي .
calendar_month13/03/2022 05:37 pm