
ما زالت الصراعات في العالم قائمة حول بنية وماهية الدولة وكيانها وهيكليتها، حيث يتم تقسيم الدول إلى نوعين : الدولة الدينية الثيوقراطية التي يديرها ويحكمها ويقودها رجال الدين وتنتهج الفكر الديني، والدولة المدنية وهي دولة القانون والتشريعات ،والشراكة المتوازنة في المواطنة بغض النظرعن الانتماء الطائفي و(المذهبي) أو العرقي (الإثني). كما يزداد الحديث يوماً بعد يوم عن الدولة الدينية الثيوقراطية في عصرنا الحديث ،ويأتي ذلك من التيارين السائدين في العالم: التيار الديني، والتيارالليبرالي. فالتيار الديني يسعى بالأساليب السياسية والعنيفة القاسية فرض منهجية وخطط شبه أحادية النظرة لإقامة الدولة الدينية. والتيار الليبرالي الذي يتسم بالدولة المدنية المتخوف من ذلك النهج وتلك الأساليب ويتحدث عن خطورة إقامة الدولة الدينية وارتداداتها واستحقاقاتها واستطالاتها، وقصة طرح مسألة الدولة الدينية جاءت في ظل الظروف التي يعيشها العالمين العربي والإسلامي خلال العقود الخمسة الماضية ،عندما بدأ صعود التيار الديني وانتشاره في العديد من البلدان هذا التيارأفرز تجارب سياسية دينية ممنهجة لها خصوصيتها على مستوى حكم وسلطات بعض الدول العربية والإسلامية، بدءاً من الثورة الإيرانية في أواخر السبعينات من القرن العشرين، والحرب الأفغانية الساخنة ضد تدخل الاتحاد السوفييتي السابق، ومن ثم إقامة دولة طالبان الدينية في الثمانينات من القرن الماضي،إلى بروز قوة الإخوان المسلمين والحركات السلفية ،وتيارات سياسية دينية في العالم تحت عدة تسميات ،مثل تنظيم (القاعدة) إلى تنظيم (داعش)، وتنظيم حركة النهضة التونسية، مرراً بسيطرة الإخوان المسلمين في السودان في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بزعامة حسن الترابي. وانتعاش التيار الاخواني في تركيا من خلال حزب العدالة والتنمية ودوره في السلطة الحاكمة ،وتأثيره في العديد من التيارات الدينية في وطننا العربي وتحديداً حزب (الإخوان المسلمين) .كما لا يمكننا أن ننسى ما دعت إليه إسرائيل من إقامة (دولة يهودية) ثيوقراطية في فلسطين التاريخية.
إزاء كل هذا يتبادر إلى أذهاننا التساؤل التالي: هل هذه التجارب على تعدّدها تقدم نموذج الدولة الدينية الثيوقراطية، ومن ثم هل في الإمكان استمرارها وخلق تجارب أخرى على شاكلتها؟ يبدو أنَّ إقامة مثل ذلك غير ممكن وربما مستحيل ،فالتجارب السابق ذكرها في معظمها قد فشلت أو لم تستطع الانسجام الكلي مع المجتمع الدولي، والتجربة الإيرانية المتبقية تواجه ظروفاً صعبة جداً، وفي الأساس فإن هناك فصائل في التيار الديني الإسلامي بجناحيه السني والشيعي غير مقتنع أبداً بإقامة الدولة الدينية.
إن ظروف العصر الذي نعيش فيه لا تسمح بإقامة مثل هذه الدولة ـ أي الدولة الثيوقراطية ـ لذلك لجأت بعض فصائل الإسلام السياسي إلى الالتفاف على الدولة القائمة بتحويلها إلى منهج وخطط مدروسة وأجندة تلك الفصائل مثل (الإخوان المسلمين) و(الحركة السلفية) على وجه التحديد، واتخذت لذلك أساليب عدة من أجل التسلل إلى أجهزة الدولة القائمة بشتى السبل والتي هي دولة مدنية، أو بالضغط الناعم عليها أحياناً وبالضغط القاسي أحياناً أخرى لتحقيق مكاسب عامة وشخصية ومواقع قيادية،وموطئ قدم في العالم. وكذلك بتغيير بعض قناعاتها وأفكارها المبدئية فعلى سبيل المثال لم تكن القوى الدينية (الثيوقراطية) تؤمن بالديمقراطية وحرية الرأي والتعبير، ولا الحياة النيابية الدستورية. معتبرة ذلك قانوناً وتشريعاً وضعياً وتجارب غربية تغريبية وهي من خارج إطارها، هذا كان رأيها حتى نهاية الستينات من القرن العشرين، ثم تغير الأسلوب والتكتيك بدخول اللعبة السياسية ودهاليزها ،وقبول المشاركة فيها في ظل الدستور والقانون الوضعي ليس بالتخلي عن الشريعة الإسلامية ولكن بتبرير العمل لأسلمة القوانين، وتعديل الدساتير والقوانين والتشريعات حسب الشريعة الإسلامية فقط التي يراها ويتبناها كل فريق من ذلك التيار الديني الأصولي.
أما مسألة الدولة المدنية الديمقراطية، فإن ما هو قائم فعليا في وطننا العربي فهو دولة مدنية لها دساتير وقوانين وتشريعات ناظمة لكن قد جرى اختراقها من قبل التيار الديني كما أسلفنا، وهذا الأمر يطرح تساؤلات كثيرة حول طبيعة العلاقة بين التيارين الديني والليبرالي ،والدولة المدنية القائمة، لما كان ولا يزال هم السلطة الاستمرار والبقاء، ولا يتحقق ذلك إلا بإجادة منهجية خاصة واللعبة السياسية بمنهج التوازن بين القوى الضاغطة القوية والاستفادة من تناقضاتها واستطالاتها وتداعياتها، فإن ذلك جرى مراراً في عدد من البلدان العربية فلما تداعى وضع التيار القومي الليبرالي بعد الهزيمة التي منينا بها نحن العرب عام 1967م.
من المؤكّد أنَّ صعود التيار الديني بدأ ليتوسع مكتسحاً الساحة العربية وهيمن عليها منذ أواخر السبعينات من القرن الماضي، قامت السلطة في معظم الدول العربية بالتعاون مع التيار الديني الذي بدأ يتصاعد بقوة ،والاستجابة لضغوطه لتحقيق هدفين أساسيين، الأول ضرب التيار القومي العربي الذي انتعش في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، والتيار الليبرالي، والتيار اليساري، والثاني يعمل لكسب ذلك التيار القوي الذي يملك قوة شعبية ضاغطة بكل تلاوينها، واستغل التيار الديني هذا الوضع باقامة مؤسساته السياسية والاجتماعية والمالية وتشكيل قاعدة ثقافية وتعليمية راسخة، والحصول على مراكز ومواقع قيادية قريبة من أصحاب القرار ورجال السلطة الحاكمة، من هنا كان تأثير هذا التيار الجارف، وخطره الكبيرعلى الدولة المدنية ومكوناتها.
وكما هو واضح يبدو أنَّ الجانب السياسي لدى التيار الديني هو الطاغي والمسيطرعلى خطابه وممارساته ونهجه أكثر من الجانب الديني أو الذي ينتمي إليه ،أو مغلف بالصبغة الدينية، فقد رأى العديد من الباحثين والدارسين للحركات السياسية الدينية أنها تدعي الانتماء إلى الدين. لذلك رأينا هذا الصعود لذلك التيار، والتراجع للتيارات الأخرى. أما الدولة المدنية والتيارالعلماني والليبرالي اللذان يؤمنان بها ويعملان على بقائها واستمرارها وعدم تجييرها من قبل التيار الديني واستطالاته فإنها تعيش حالة من القلق والاضطراب والتراجع وعدم الاستقرار، والسبب في ذلك أنَّ تيار الدولة المدنية الليبرالي قد أضاع الفرصة التاريخية في تثبيت أركانه بأخطاء تاريخية عديدة وقع فيها عند ممارسته الحكم وتحقيق قوانين السلطة، وهذه الأخطاء انعكست سلبياً عليه، وخدمت الاتجاه المضاد له، والذي عمل بذكاء وسرعة لاستغلالها وتوظيفها لصالحه. غير متناسين أنَّ السلطات الحاكمة في بلداننا العربية قد لعبت سياسياً على التناقضات الهائلة بين التيارات في مجتمعاتها من منطلق مصلحتها دون أن تدرك حجم مخاطر ذلك التوجه. إضافةً إلى إنَّ القوى الخارجية التي لها مصالح في بلداننا العربية كانت تراقب بدقة وترصد ذلك النزاع وتدعم السلطات المحلية والحكومات الطاغية في اللعب على التناقضات المتفاقمة لأنها كانت ولا تزال مستفيدة من ذلك. الجدير بالذكر أنَّ التيارات الدينية أو قوة تيار الدولة الدينية تكون في أشد حالاتها قوةً عندما تكون في المعارضة لأنها تظهر نفسها على أنها ضحية وذلك من أجل مزيد من تحقيق كسب الشعب. لكن في الوقت ذاته نجد أنَّ أنصار الدولة الدينية وأنصار الدولة المدنية لا يبحثون عن
عن نهج توفيقي وإن تظاهر البعض من هذا الاتجاه أو ذاك، لذلك فالنزاع إن لم نقل الصراع والصراع الساخن قائم لأنَّ الخلاف جذرياً يتعلق بالفكر وبطرقة التفكير، ثم هل المطلوب حلاً توفيقياً فعلاً لهذه المعضلة التي تبدو متأصِّلة، وهل المسألة هي بتوفرالثقة والنية الصادقة في الاتجاهين أم حتمية الصراع الذي يتسع ويتسع ليصل إلى مدى غير مسبوق من التناقض، ثم حتمية قيام الدولة المدنية أو الدينية؟في هذا السياق ووفق لأسس الصراع يبدو أنه لا للسكوت أو اتخاذ مجال للحياد، ومسك العصا من منتصفها ذلك يحدث سياسياً من قبل السلطة الحاكمة القائمة لأن مثل ذلك النهج يصب في مصلحتها، واللعبة السياسية فيها خداع ومراوغة ،فهي متغيِّرة وزئبقية. إلا أنَّ الرأي الذي يراه الكثيرون بشكلٍ عقلاني ومنطقي هو أنَّ لا مجال لإقامة الدولة الدينية، فالدين لله والوطن للجميع، والدولة المدنية هي وحدها التي تستوعب الجميع من ليبراليين وعلمانيين ودينيين وغيرهم.
إن القناعة بوجود الدولة المدنية وحدها في السلطة لا تكفي ،إذ إنَّ الأمر، يحتاج إلى مبررات محدّدة وواضحة لهذا المشروع الذي هو قائم منذ استقلال الدول العربية ومغادرة الاستعمار بشكل ظاهري مع البقاء على التبعية العملية، كي تبقى ماهية وكينونة الدولة المدنية مشوهة وغير سليمة في الممارسة والتطبيق والواقع.