تشهد البشرية يوماً بعد يوم تطوراً كبيراً ومتسارعاً في شتى مجالات الحياة، كما تظهر المؤشرات الجديدة ضرورة تفعيل عملية التحديث والتطوير بشكلٍ مستمر. ولعلَّ أهم جوانب ذلك التطوير والتحديث ما يتعلّق بالحياة السياسية ونظام الحكم وإدارة البلاد. بخاصة وأنَّ العالم يشهد بشكلٍ مضطرد ايقاعات متتالية في حركة النظم السياسية العالمية. ففي العقود الأخيرة بدت حالات التطور الإيجابية تتجلى في بعض نظم الحكم وإدارات الدول في عدد من بلداننا العربية. فقد خطت إلى الأمام في اتجاهات التطوير والتحديث مثل بعض دول الشمال الإفريقي، وتحديداً المغرب والجزائر وتونس، كما شهدت المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية وبعض دول الخليج العربي تطوراً في الجانب الاقتصادي إضافةً إلى الانفتاح السياسي على العالم المعاصر دون أيَّة موانع سياسية أو حواجز وعقبات نفسية. هذه بمجملها تعتبر مظاهر وتجليات لحياةٍ أفضل .وعلى جميع الدول العربية أن تستلهم من تلك الدول وغيرها ذلك النهج بحيث أنَّ كل من يؤرِّخ للنظم العربية الحالية وإدارات الدول لديه قدرٌ كبيرٌ من التصور لما سيكون عليه مستقبلها ، وذلك على ضوء مسيرة الحاضر وضمن سيرورة الماضي وإصلاح أخطائه وتجاوزها. وهنا نجد أنفسنا أمام عدة تساؤلات مشروعة حول بنية هذا التطور وماهيته وأبعاده، لأنه إذا تم فهمه خارج سياق العوامل المتصلة بمؤشرات التقدم والتطور وضوابط القياس للمسافة نحو مستقبلٍ أفضل ، وعالمٍ أكمل للنظم العربية، والسياسات الوطنية والقومية، تكون الطامة الكبرى. لكننا في هذا المقام نرى أنه لا يمكن مجادلة باحث في مجال العلوم السياسية أو خبير في نظم إدارة الدولة وحكم البلاد في أنَّ مساحة الديمقراطية واتساع هوامش حرية الرأي والتعبير التي تمثل بالضرورة الركيزة الأساس في تقدم الأمم وتطورها وازدهار الشعوب وتحضّرها، وكنا قد تابعنا العديد من النظم والسلطات الحاكمة وكيفية إدارتها لبلدها. فوجدنا أنَّ نظم الحكم الفردية هي بيئة حاضنة ودافعة للدكتاتوريات، وبسط نفوذها وسيطرتها وهيمنها خارج سياق السلطات الديمقراطية المتوزعة في العالم ،والتي تتبناها العديد من الدول وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية بشكلٍ عام . لكنّ حكم الفرد الواحد في بلداننا العربية نجده يحقق أمثل مناخ للطغيان والاستبداد،والاستئثار بالسلطة، وضعف المشاركة السياسية وغياب الحرية والرأي والرأي الآخر. وأصبح واضحاً بشكلٍ جلي أنَّ الحاكم الفرد الذي يطلَق عليه في قواميس ومعاجم السياسة بــ (الحاكم العادل المستبد) يمكن أن يودي باستقرار وأمن بلاده وسلامة شعبه وطمأنينته، ويدفع الأمور نحو الهاوية والدمار والحرائق والخراب.
ولعل (المغامرات( adventures السياسية والعسكرية التي زجت بها العديد من القيادات التي انفردت باتخاذ قراراتٍ خطيرة جداً ومصيرية قد خرجت عن النص المكتوب ،أو الخطط المرسومة ،كانت كلها نتاجاً لديكتاتورية الفرد الحاكم وفاشية الفكر وغياب الرؤية الواقعية والمستقبلية، وما جرى من أحداثٍ في بعض الدول العربية في فترة ما أطلق عليه (الربيع العربي) تسير وفق هذا السياق.
كما أنَّ درجة الاستقرار السياسي في البلاد مرتبطة بقوة بالعامل الأول الذي يؤدي إلى الترشيد الصحيح القويم وإقرار عناصر الحوكمة ،وهو الكفيل في النهاية بإحداث الاستقرار والأمن والأمان المطلوب ،والابتعاد من التغيرات المفاجئة والغير محسوبة، وهنا نجد أنفسنا مضطرين لتوضيح أمر في غاية الصراحة ،وهو أنَّ هناك فارقاً كبيراً بين حال السكون ومفهوم الاستقرار، فالسكون والثبات ظاهرة سلبية تشير إلى التكلّس والجمود في النظم والقوانين والتشريعات وافتقاد حيوية القرار، وقد تكون النيران تحت الرماد ولا يعلم بها الحاكم ولا يشعر بها .بينما يقوم الأمن والأمان والاستقرارعلى مجموعة من العوامل التي تم وضعها ودراستها بإحكامٍ وعناية شديدة في مناخ صحي كامل يسمح بقبول الرأي والرأي الآخر، ويتعامل مع الآخر في نديَّةٍ ومساواةٍ تجعل من مبدأ المواطنة الشعار السائد والهام الذي يحترمه الجميع دون استثناء ،ويلتف حوله أبناء الوطن الواحد، فالتفرقة والعنصرية والتمييز قاتلة تدمِّر المشاعر الإنسانية وتقطع الروابط الاجتماعية بل وتؤدي إلى تشويه المجتمعات ومستقبلها وتؤدي في الكثير من الحالات إلى ظهور العنف والكراهية ومن ثم إلى الإرهاب.
في السنوات العشر الأخيرة شهدنا حالة متفاقمة من النكوص والارتكاس والابتعاد عن الديمقراطية وممارستها في الدولة المدنية ،ولاحظنا الاتجاهات السلطوية تسير نحو بعض مظاهر الاستبداد السياسي وتتبناه حتى في الدول التي كانت متقدمة بحساب العصر، مما أدى إلى تشويه الدولة وبنيانها الداخلي واهتزاز الصورة بشكلٍ متسارع، فقد برزت بعض المظاهر العنصرية المفرطة وحالات التمييز العرقي والطائفي داخل البلد الواحد وبدأت تطل برأسها السام وبشكلها الكئيب.في هذا السياق نشهد حالة من التمييز والعنصرية المبطنة والظاهرة في الغرب الأوروبي وما جرى منذ مدةٍ قصيرة خير دليل على ذلك. فقد تفاوت معاملة الغرب الأوروبي للاجئين من أوكرانيا ومعاملتهم مع اللاجئين من بلداننا العربية ومن القارة الإفريقية ، وتجلّت التفرقة بينهم على أسس عنصرية بغضاء كنا نعتقد أننا قد تجاوزناها بشكلٍ مطلق وقطعنا أشواطاً واسعةً في الإيمان بالإنسان الحر داخل الدولة المدنية الحديثة.
الجدير بالذكر أنَّ الاقتصاد المتغير والمتبدِّل المستقل الذي تتبعه متغيرات أخرى سيبقى لمدة غير محدّدة، ذلك أنَّ القرار السياسي يضع تحت مظلته البعد المصلحي النفعي لما يقوم به الأشخاص والجماعات، ولا جدوى في هذه الحال من مشاريع التقدم والتطور وبرامج الإصلاح التي كان يعتقد أنها ستضع أسس جديدة للحكم وإدارة البلاد، إذ إن حشداً ضخماً جداً من مشكلات الإنسان المعاصر إنما يأتي من نقص الموارد المتوفرة والمتاحة لديه في مواجهة الحاجات الضرورية المتعددة، غير متناسين أبداً أنَّ الفقر والجوع والحرمان قنبلة موقوتة، وأن المجتمعات المكتظة بالبشر مع نقص الإمكانات وضعف البنى التحتية تصبح بيئة حاضنة للانفلات الأخلاقي والجريمة والخروج عن القوانين والتشريعات الناظمة، و يكون التمرد والغضب العارم غالباً على ولي الأمر حتى وإن لم يكن نموذجاً هابطاً في إدارة الدولة وتحقيق العدالة الاجتماعية بشكلٍ متوازن .
من هذا المنطلق نؤكد على أنَّ الدول الفقيرة والتي تعاني شعوبها من الحرمان والحاجة والفقر تحتشد لديها المشكلات والعقبات وتتكاثر أسباب الخلاف ومظاهر التردي والتخلف والجهل مع شيوع الفساد ،وانهيار منظومة القيم الأخلاقية السامية، وهكذا فإن ترشيد النظام السياسي يقتضي بدايةً وفرة في الموارد والطاقات تسمح بالحديث الواضح والصريح عن مستقبلٍ أفضل في ظل منظومة حكم جادة للإصلاح الحقيقي الذي يتوافق مع متطلبات الشعب ومصلحته العليا.
إن تداول السلطة وإدارة دورة الحكم بسلاسة وانتظام، ودوران النخبة وتغيير المسؤولين والقائمين على بعض مفاصل الدولة سعياً نحو الأفضل ،هو نتيجةً مباشرة للحراك الاجتماعي والمطالب التي يحتاجونها، وتعبير عن حيوية النظم في ظل شعور عام بأن السلطة الحاكمة المطلقة والقائمين عليها فاسِدَة ومفسِدَة ، من هنا تأتي ضرورة تجديد الدماء وضخ الحيوية في شرايين النظم الحاكمة والسلطات القائمة التي تعتمد على المقومات الأساس في الإصلاح، وفي مقدمها الاهتمام بالتعليم كأولوية أولى للنهوض والتطور والتقدم والخلاص من الكم الهائل من المشكلات والمعيقات القائمة، فالمجتمعات المتقدمة والمتطورة اقتصادياً وجتماعياً وسياسياً تسعى إلى تغيير شكل الحياة وتجديد أطر النظم القائمة ،من خلال جودة التعليم وتأثيرها الكبير جداً في نمو المجتمعات وازدهار عناصر الانفتاح الواسع أمامها بشكل متواصل وفي كل الأحوال والظروف، فالتقدم والتطورعمليتان ديناميكيتان مثل السباحة عكس التيار، فإما أن يتقدم وإما أن تجرفه الأمواج إلى الوراء متراجعاً حيث كان، أو تعيده إلى نقطة الصفر، والتعليم العصري لم يعد عملية سهلة أبداً ،ولكنه شبكة معقَّدة من المعارف والبرامج التي تنقذ الأجيال الجديدة وتخرج بها من الأطر التقليدية الكلاسيكية المعتادة والمظاهر القديمة التي باتت بالية وغير قادرة على مجاراة الواقع، إلى ما يمكن اعتباره شكلاً جديداً للتحضر والحداثة والتطور ومواكبة العصر ومصافحة المستقبل المنشود.
وهنا يمكننا القول إنَّ العلاقة بين السياسة والدين لا تزال غامضة وملتبسة في منطقتنا العربية وفي الدول الإسلامية، ويتعين علينا أن نقطع الحلقة الفاسدة والشيطانية الناجمة عن التفاف السياسة الملوثة حول الدين الحنيف النقي، وتلك مسؤولية كبرى على عاتق المؤسسات والهيئات والإدارات الدينية والتجمعات الإصلاحية في كل مكان، وقد أصبح الأمر صريحاً وواضحاً، وهو أن بعض رجال الدين يحاولون تأويل النصوص وشرحها وتفسير الأحاديث النبوية على نحوٍ خاطئ لا يتفق مع مقاصد الشريعة السمحاء وجوهر العقيدة الإسلامية النقية، وهذا يتطلب من ولي الأمر، أن يدفع إلى تجديد الخطاب الديني وسلامة الدليل النقلي والعودة إلى أصول الدين الحنيف دون تزوير أو تحريف، واحترام المنطوق العقلي والمعرفي، وقد حاولت دولتان عربيتان خلال السنوات الأخيرة تحقيق ذلك ضماناً للرشد سعياً إلى التجديد، ورغبة في الإصلاح ،ولا تقف المؤسسات والهيئات والجمعيات الدينية وحدها عند القيام بدورها في هذا السياق، بل لا بدَّ من إعلامٍ نزيهٍ يتسم بشرف الكلمة ونبل المقاصد ،ويدفع الرأي العام دفعاً باتجاه المنصات المناسبة لمساعدة أصحاب العقائد في فهم التوجهات الإيجابية لها، والابتعاد كل البعد عن الصياغات الغامضة المبهمة والأفكار المزيفة الخارجة عن منطق الدين وروحه التي تحاول إخضاع الدين الحنيف لأغراضٍ سياسية لا تخدم المواطن ولا تحقق رفعة المجتمع وسموِّه.
إنَّ القرارات التي يصدرها الحاكم العادل تحت عنوان القرار الرشيد إنما تتحقق من إتمام الصالح العام لكافة المواطنين. ولذلك فإن الإصلاح عملية عقلية وضرورية تبدأ من أعلى سلَّم القيادة، أي من القمَّة إلى القاع ،ولا تستثني أحداً على الإطلاق، وهذا يجعلنا نتيقن أنَّ المستقبل العربي سيحمل في طياته تطوراتٍ إيجابية كبيرة بمنطق الأعداد الكبيرة جداً من أهل العلم والمعرفة والفكر والثقافة في وطننا العربي كله.
إنَّ جوهر قضية تحديث وتطوير الحكم وإدارة البلاد هو ضرورة من أجل رفع سوية وشأن الإنسان العربي إنسانياً وفكرياً و ثقافيا، والاهتمام الشديد بتأمين الاحتياجات التعليمية والصحية، والخلاص من المعيقات والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، من هنا ننادي بأعلى صوتنا كي نصحوا نحن العرب ونحقق حضورنا الحقيقي في عالم غير متوازن
calendar_month04/05/2022 09:48 am