لم تكن فكرة الديمقراطية سوى شكل من أشكال الحكم يشارك فيها جميع المواطنين الذين يعيشون في بلدٍ واحد على قدم المساواة، بشكلٍ مباشر أو من خلال ممثلين عنهم يتم انتخابهم عبر صناديق الاقتراع، وذلك من خلال القوانين والتشريعات الناظمة التي تم استحداثها لتشمل كافة المجالات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تمكِّن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لحرية التعبير السياسي وتقرير المصير، ومن أهم أسس الديمقراطية الالتزام بالمسؤولية واحترام النظام وترجيح كفة المعرفة والثقافة على القوة والعنف والبطش. 

الجدير بالذكر أنَّ مصطلح الديمقراطية يطلق في الكثير من الأحيان على بمعناه الضيق لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطيةٍ التي تعبِّر عن ثقافة المجتمع ووعيه بقضاياه أما الديمقراطيّة بمدلولها الأوسع فهي نظام اجتماعي مميز يؤمن بها أبناء الوطن ويسير عليه المجتمع ويشير إلى ثقافةٍ سياسيّة وأخلاقية سامية معيّنة تتجلى فيها مفاهيم عدّة تتعلق بضرورة تداول السلطة سلمياً ،وبصورة دورية ضمن زمن محدَّد. أما منشأ الديمقراطية ومهدها فإنه يعود إلى اليونان القديم حيث كانت الديمقراطية التي مورست في أثينا أوَّل ديمقراطية نشأت في التاريخ.والديمقراطية كما تم الحديث عنها في هذا السياق تعني حكم الشعب لنفسه، والذي كان قد تجسّد في القرن الخامس قبل الميلاد للدلالة على النظم السياسية الموجودة آنذاك في ولايات المدن اليونانية وبشكلٍ خاص في أثينا. وهي مناقضة لمفهوم الأرستقراطية التي تعني حكم النخبة .مع العلم أنه تم طمس الاختلاف بين الديمقراطية التي تعني حكم الشعب لنفسه والحكم الأرستقراطي من خلال منح النظام السياسي في أثينا القديمة حق ممارسة الديمقراطية لفئة النخبة من الرجال الأحرار في حين تم اسبعاد العبيد والنساء من المشاركة السياسية. وفعلياً تشكلت الممارسة الديمقراطية من فئة النخبة والخاصة حتى مُنح حق العتق الكامل من العبودية لجميع المواطنين البالغين في معظم الديمقراطيات الحديثة في العالم من خلال حركات الانتخاب في صناديق الاقتراع في القرنين التاسع عشر والعشرين. لكن كثيراً ما يطلق لفظ كلمة الديمقراطية الليبرالية لأنها النظام السائد للديمقراطية في دول الغرب الأوروبي والأمريكي، وكذلك في العديد من دول العالم في القرن الحادي والعشرين، وبهذا يكون استخدام لفظ الديمقراطية لوصف الديمقراطية الليبرالية خلطاً شائعاً في استخدام المصطلح سواء في الشرق أو الغرب، فالديمقراطية بمدلولها الحديث هي شكل من أشكال الحكم السياسي قائمٌ بالإجمال علَى التداول السلمي للسلطة وحكم الأكثريّة بينما الليبرالية نؤكد في جوهرها على حماية حقوق الأفراد والجماعات والأقليات، وهذا نوع من تقييد الأغلبية في التعامل مع الأفراد والأقليات بخلاف الأنظمة الديمقراطية التي لا تشتمل على دستور قائم يلزم مثل هذه الحماية والتي تدعى بالديمقراطيات الليبرالية، من هنا نؤكد على وجود تقارب بينهما في أمور معينة، وتباعد في أمور أخرى يظهر بوضوح في العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية، كما تختلف العلاقة بين العلمانية والديمقراطية باختلاف رأي الأكثرية. كما أنَّ التعريف المبسَّط للديمقراطية أنها حكم الشعب لنفسه، فالشعب هو الذي يختار ممثّليه في البرلمان عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع، وهو أيضاً الذي يختار رئيسه سواء عبر الانتخاب المباشر أو عبر الانتخاب من خلال ممثليه في البرلمان، ولكن الحقيقة أن الديمقراطية بمفهومها الدقيق لا تضمن بأي حال من الأحوال أن يحكم الشعب نفسه عبر ممثّليه، ولعل بعض دولنا العربية من التي أعلنت عن الديمقراطية نهجاً وخطاً سياسياً سواء حديثاً بعد ما أسموه (الربيع العربي) أو قبلها، هي خير دليل وبرهان على ذلك .    
فلو تتبعنا صدى الديمقراطية في وطننا العربي لوجدنا على سبيل المثال لا الحصر أنّ لبنان اختار الديمقراطية نهجاً وطريقاً منذ تأسيسه، وجدّد النهج عبر اتفاق الطائف بتاريخ 30 أيلول 1990م، أو وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي وضعت بين الأطراف المتنازعة في لبنان.ونتيجة طبيعته الخاصة وتكوينه التعددي اختار لنفسه ديمقراطية خاصة غير الديمقراطية التي يعرفها العالم، وهي ديمقراطية لا تستند إلى إرادة الشعب أبداً، ولكنها تكرس الطائفية بشكلٍ رسمي وتعتمد المحاصّة ليس في البرلمان والرئاسات الثلاث أي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان فقط، بل تعتمد المحاصّة في التشكيلة الوزارية وتركيبتها الطائفية ،وفي الوظائف العسكرية والأمنية، وأيضاً في الوظائف العامة المدنية لتمتد إلى النقابات والجمعيات والهيئات والإدارات والوظائف المتوسطة والصغيرة. ومن يتتبع أوضاع لبنان يدرك تمام الإدراك أن ديمقراطيته التوافقية، غير سوية وغير متوازنة على الصعيد الشعبي وإدارة الحكم ،ولم تجلب له أي توافق، بل حرمته من الاستقرار والتطوير والتحديث، وجلبت له الأزمات الاجتماعية المتفاقمة ،والتشتت الوطني، والعقم السياسي والانهيار الاقتصادي، وتركته في يد مجموعة من أصحاب المصالح الحزبية والشخصية يتحكّمون في قراره ومصيره ومستقبله، وبهذا وجدت القوى الخارجية فرصة العبث بأمنه واستقرار شعبه، هذه الديمقراطية تسببت في هجرة عدد كبير من المواطنين اللبنانيين إلى معظم دول العالم ،وهروبهم من جحيم أزماته الكثيرة، وشعورهم بالقلق على حاضر الشعب اللبناني ومستقبله، وهي الديمقراطية التي جعلت مناصبه السيادية في فراغ وضياع، وحوّلت حكوماته المتوالية إلى حكومات تصريف أعمال،لقد ساهمت الديمقراطية الخاصة المتركزة على اتفاق الطائف ونظام المحاصصة على وجود عائلات متنفذة وشخصيات خاصة اقتسمت المناصب، مما أفسج المجال لوجود الفاسدين والمفسدين الذين استغلوا خيرات الشعب وثروات الدولة لحسابهم الخاص .وعلى الرغم من أن الانتخابات النيابية الأخيرة نجحت في الخروج عن المألوف لتأتي بعدد محدود من النواب خارج المنظومة المتبعة، فإن ما يلوح في الأفق لا يشير إلى بروز دور تغييري لنواب التغيير الذين ما زالوا في حيرةٍ من أمرهم وكأن لكلٍ منهم مشروعه الخاص به.  
أيضا هناك دول حديثة العهد بالممارسة الديمقراطية،مثل العراق وليبيا، وكل من هاتين الدولتين تعيشان في حالة من الفراغ السياسي الحقيقي وفقدان البوصلة الذي لا يختلف كثيراً عن الفراغ الذي يعيشه لبنان، لم يفرز سوى مشاكل وظروف اجتماعية طاحنة وقاهرة ،وانهيارات اقتصادية كبيرة ومتتالية أمام العجز السياسي الذي تعيشه الدولتان في ظل سيطرة عدد قليل من السياسيين على القرار ،وارتهان معظمهم لإرادة الدول والقوى الخارجية، واختطاف الإرادة الشعبية، وتغييب المواطنين وتهميشهم واستخدام الديمقراطية وسيلة لتسيير مصالح هذه الفئة القليلة من السياسيين من دون النظر إلى معاناة الشعبين، والتي وصلت إلى حد الحرمان من أبسط حقوق الحياة الكريمة ومتطلبات العيش اليومي مثل المياه والكهرباء التي تنقطع معظم ساعات اليوم وحتى لعدة أيام متواصلة في بعض القرى والبلدات ، وذلك على الرغم من أن الدولتين كانتا قبل سنواتٍ معدودة، من دول الغنى المالي ،والوفرة الاقتصادية والثراء في الموارد الطبيعية والوقود من نفط وغاز.  
من جهةٍ أخرى نجد أنَّ الديمقراطية بمفهومها المحلي العربي تنقل العراق من أزمةٍ إلى أزمة، وهو ما دفع الشعب للثورة على نظام المحاصّة الطائفية و(الإثنبة) الأقليات القومية والولاء للخارج في تشرين الأول 2019، وفي أكتوبر الماضي أجريت انتخابات برلمانية في العراق غيّرت من ملامح البرلمان، ولكن مراكز القوى السياسية المسيطرة لم ترضخ للإرادة الشعبية ولنتائج الممارسة الديمقراطية، وعجز البرلمان العراقي المنتخب عن التوافق لا على رئيس للحكومة ولا على رئيس للدولة العراقية، لكن الأحدث عهداً بالممارسة الديمقراطية هي الجماهيرية الليبية، التي لم تجنِ من هذه الديمقراطية سوى أزماتٍ متلاحقة، لتصبح دولةً تخضع لديمقراطية المحاصّة القبلية والمناطقية والارتهان للدول الغربية الأوروبية والأمريكية ودول الخارج بشكلٍ عام، وكانت النتيجة وجود حكومتين تتصارعان مستخدمتان العنف في كثير من الأحيان ،وبرلماناً عاجزاً عن فرض إرادته وهيبته، ومجلساً أعلى ومجلساً رئاسياً لكل منهما أجندته الخاصة به، وانصرافاً كاملاً عن تسيير أمور الشعب الليبي، مما دفع الشعب للجوء إلى التظاهر تعبيراً عن الغضب الشديد الذي آلت إليه أوضاعهم الصعبة جداً، ورفضاً لمختطفي الدولة من الطبقة السياسية التي لم يكن لأي من أعضائها دور كبير في السابق والميليشيات المسلحة والمرتزقة، لتعود ليبيا إلى الوراء وإلى نقطة الصفر، بعد أن سيطرت الفوضى وانتشر الفسداد وساد المفسدون على الحاضر، ليصبح مستقبل ليبيا وشعبها في مهب الريح. 
وللأسف الشديد فإنَّ الديمقراطية بمعانيها ودلالاتها لا تُفرز دائماً أنظمة صالحة للحكم وإدارة البلاد، بل قد تكون سبباً أساسياً للأزمات الجماعية التي يعيشها العالم بخاصة إذا ما تم استخدامها لمصالح جهوية أو شخصية.
calendar_month13/07/2022 10:02 am