
ما زال العراق يعيش حالة من القلق والاضطرابات غير المسبوقة نتيجة الصراعات البينية ، تلك الحالة المتفاقمة تُنذر بجنوح الأزمة القائمة التي تعصف بالعراق منذ سنوات إلى مندرجات خطيرة. والشعب العراقي، بمختلف مكوناته ، في غاية القلق وعدم الاستقرار مما يجري، خوفاً من الانزلاق إلى فوضى ممكن أن تكون عارمة تزيد من معاناته اليومية، وقد تؤثر في مستقبل الدولة العراقية برمتها. فالبلاد ما زالت تزداد سخونة الأحداث فيها وهي ليست قادرة على مزيد من تحمل دعوات جديدة ومتبادلة إلى حشود مليونية في شوارع بغداد وأزقتها . والواضح من خلال سياق التداول السياسي أن حكومة الرئيس مصطفى الكاظمي التي تصرِّف الأعمال منذ ما يزيد على عشرة أشهر، قد تكون غير قادرة وغير مهيئة على التعامل مع هذا الحجم من التوترات الكبيرة ، بخاصة في العاصمة بغداد، ومدن الجنوب العراقي ، بسبب وجود فصائل متعددة تحمل السلاح وتعمل على فرض سيطرتها بالقوة ، وهي لا تنضوي تحت جناح القوات المسلحة الشرعية.
ومنذ ما يزيد على أربعين عاماً يتخبط العراق في أزمات كبيرة غير مسبوقة، وقد عانى الشعب العراقي الكثير من الويلات قلما عاشها شعب آخر.
لو عدنا إلى سجلات الأمم المتحدة لوجدنا أن معظم الإحصائيات تؤكد أن العراق هو الدولة الأولى في العالم لناحية عدد ذوي الاحتياجات الخاصة والمتضررين جراء الحروب الطاحنة ، قياساً لعدد السكان، كذلك الأمر في ما يتعلق بعدد النساء الثكالى ، والأطفال الأيتام.
لقد بينت نتائج الانتخابات التشريعية التي حصلت في شهر تشرين أول العام الماضي 2021 أنها أفرزت خارطة سياسية جديدة في العراق، فقد فاز (التيار الصدري) مع حلفائه بأغلبية برلمانية كبيرة ، لكن أكثريتهم لم تصل إلى حد الحصول على ثلثي أعضاء مجلس النواب العراقي ، وبالتالي، فإنهم لم يتمكنوا من تأمين نصاب لجلسات البرلمان لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتكليف رئيس جديد لتشكيل الحكومة العراقية .
كما أننا نجد أن المنهج السياسي العراقي بطرفيه وعلى الرغم من حالة النزاع السياسي الحاد في العراق فإنهما يناديان بضرورة تحقيق الإصلاح وقطع دابر الفساد والمفسدين ووقف الهدر في مؤسسات الدولة وإداراتها، كما يطالبان بتوفير عيش كريم للمواطنين العراقيين الذين يرزحون تحت ضغوطات الحياة اليومية الصعبة جداً ،وفقدان معظم احتياجاتهم الضرورية . لاسيما من جراء انقطاع التيار الكهربائي وشح المياه وتلوثها في أماكن عديدة ، ومن تفاقم البطالة وازدياد الفقر ونقص حاد في الخدمات الصحية والتعليمية . لكن الفريقين غير قادرين على تشكيل حكومة ائتلافية واحدة، بسبب تباعد وجهات النظر السياسية الكبيرة بينهما. وقد كان التيار الصدري وحلفاؤه قد طالب بتشكيل حكومة أكثرية تتحمل المسؤولية الكاملة أمام الشعب، وتخضع لمساءلة المعارضة ضمن اللوائح والقوانين والتشريعات الناظمة ، بينما تطالب كتلة الفتح التي تضم فصائل (الحشد الشعبي) ومعهم نواب حزب الدعوة، التي يتزعمها نور المالكي، بتشكيل حكومة مشاركة وطنية تضم كل القوى الفاعلة التي نجحت في الانتخابات. وعدم الوصول إلى تشكيل حكومة أكثرية دفع نواب الكتلة الصدرية البالغ عددهم ثلاثة وسبعون عضواً إلى الاستقالة من البرلمان.
لقد أنتجت اندفاعة الجماهير الصدرية منذ مطلع شهر آب نحو مقر البرلمان العراقي ودخوله، واقعاً جديداً لم يكن موجوداً قبل تلك الاندفاعة . قابلتها دعوة واضحة وصريحة من فصائل (الحشد الشعبي) إلى التظاهر عند حدود المنطقة الخضراء في العاصمة بغداد، والفريقان يتنافسان بشكلٍ حميم في الدعوة إلى حشود متقابلة، وربما في حشود متصارعة تخاف الحكومة من عدم القدرة على فرض سيطرتها عليها وضبط إيقاعها .
إن تسابق الأحداث وسخونتها دفعت التيار الصدري إلى حلّ مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة، وتلك كانت من أولويات منهجه السياسي بينما يؤكد قادة (الحشد الشعبي) ومعهم نور المالكي الرئيس الأسبق للحكومة ، إن الأولوية هي لعقد جلسة للبرلمان العراقي ولتشكيل حكومة جديدة. مع العلم أنّ حلّ البرلمان لا يمكن أن يحصل إلا بقرار من النواب أنفسهم في جلسة شرعية، أو باستقالة أغلبية الأعضاء، أو تطلب من الحكومة أن تملك جميع الصلاحيات ، وليس من حكومة تصريف أعمال صلاحياتها محدودة ، كما هي عليه الحال مع حكومة مصطفى الكاظمي اليوم.
الجدير بالذكر أنّ المحكمة العليا كانت قد اعتبرت أن حلّ مجلس النواب ليس من صلاحياتها وفق الدستور.
إن ما يشهده العراق من حالة قلق واضطراب هو نتيجة الغليان السياسي والشعبي الذي أنهك الدولة. وكان رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي قد دعا جميع الأفرقاء إلى تقديم تنازلات متبادلة حتى لو كانت تلك التنازلات مؤلمة لبعض الأطراف لكنها تهدف في نهاية الأمر إلى إنقاذ البلاد، واجتمع الطاظمي مع هادي العامري ممثل قوى (الحشد الشعبي)، طالباً المبادرة إلى إيجاد تسوية حقيقية مناسبة ترضي الفريق الآخر، لكن مقتدى الصدر رفض وما زال يرفض أي مشاركة مع القوى التي سببت الويلات للبلاد، وأدت إلى تعميم ثقافة الفساد والمفسدين والقتل والظلم ، كما يرفض مع حلفائه التدخلات الخارجية وتحديداً الغربية منها بشؤون العراق، خصوصاً من الذين ساهموا بقطع التيار الكهربائي والمياه عن البلاد في أوج موسم الحر الشديد والغبار.
وسط هذا القلق والاضطراب المُخيفان . يستمر تراجع الدخل القومي للفرد في العراق، وتزداد البطالة ونسبة الفقر ، بينما تدنّى دخل الفرد إلى ما دون 4,2 ألف دولار سنوياً، وهو مبلغ لا يحقق إدنى الحياة الكريمة للمواطن . ووصل في عام 2019 إلى ما يزيد على ستة آلاف دولار أمريكي ، كما تزايدت عمليات التهريب من الشمال الغربي ومن الشرق،وهذا ما سبب ضغطاً مالياً كبيراً وقاسياً على المنتوجات العراقية، بخاصة المنتوجات الزراعية، وقد تدنت مساهمة القطاع الزراعي بشكلٍ كبير في الناتج الإجمالي حتى وصلت إلى ما دون 3%.
نرجو للعراق وشعبه أن يتجاوز كل هذه المحن وتلك الأزمات . وأن يعاد بنائه من جديد على أساس المواطنة وتحقيق العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بشكل عادل على المواطنين. والحفاظ على أمن وسيادة واستقرار العراق.