شهد العالم وما يزال يشهد حالات مستمرة من النزوح والهجرات والتهجير القسري ، وبات العالم بتقلابته السياسية والاقتصادية والأمنية والمناخية غير مستقراً وتتنازعه الصراعات المتفاوتة والمتنوعة . فليست أوكرانيا وحدها واستحقاقات وتداعيات أزمتها الجديدة المستمرة منذ نحو عشرة أشهر من تلقي بظلالها وتبعاتها على التباينات والتفارقات والخلافات المتزايدة بالتفاقم داخل القارة الأوروبية العجوز، بعد أن فرضت العديد من القضايا التي لم تكن موجودة في السابق، تتقدمها مسألة الهجرة القادمة من وراء البحار، على أجندة القارة الأوروبية العجوز، وأشعلت، في الآونة الأخيرة، فتيل التوتر والاضطراب بين إيطاليا وفرنسا على وجه الخصوص.
ومع أنّ قضية الهجرة المتزايدة ليست جديدة، وتسبق اندلاع الأزمة الأوكرانية الساخنة بعدة عقود، إلا أنَّ وصول اليمين الشعبوي المتطرف في بعض دول القارة الأوروبية إلى السلطة، كما في إيطاليا على سبيل المثال، أضفى بعداً جديداً على الصراعات والخلافات القائمة داخل القارة الأوروبية ،بشكلٍ عام وداخل دول الاتحاد الأوروبي بشكلٍ خاص على نحو بات يهدّد وحدتها وتماسكها.
والمفارقة التي أصبحت واضحةً وضوح الشمس أنَّ الصراع الذي يدور الآن بات ينحصر بين اليمين الشعبوي الأوروبي المتطرف الذي يعتبر نفسه المدافع الأوّل عن الديمقراطية، ويمسك بمعظم تقاليد الحكم والسلطة في القارة الأوروبية العجوز، واليمين المتطرف والشعبوي الذي يتنامى بسرعةٍ كبيرةٍ داخل كل دولة من دول القارة الأوروبية، على الرغم من أنَّ صعود اليمين الشعبوي المتطرف جاء أيضاً من خلال العملية الديمقراطية ذاتها ضمن اللوائح الانتخابية وصناديق الاقتراع. وإذا كانت مواقف اليمين الشعبوي المتطرف المتشدّدة معروفةً أصلاً تجاه قضية المهاجرين والهجرة، فإنّه باتَ يضع العلاقات السياسية للدول بين بعضها البعض على المحك دون أدنى مواربة، كما هو الحال بين فرنسا وإيطاليا، وبين بريطانيا وفرنسا، ناهيك عن تداعيات الهجرة الخطيرة من أوكرانيا وما أفرزنه من تناقضات حادّة وخلافات بين مختلف دول القارة العجوز.
 لقد تفاقمت حدّة الصراعات وازداد منشأ التوتر الأخير بين فرنسا وإيطاليا الذي جاء على خلفية رفض الحكومة الإيطالية اليمينية الشعبوية المتطرفة برئاسة جورجيا ميلوني المعروفة بموقفها الحازم والقاسي حيال المهاجرين مهما كانت جنسياتهم، استقبال سفينة (أوشن فايكينغ) الإنسانية التابعة لإحدى المنظمات الإنسانية غير الحكومية، التي كان على متنها نحو مئتان وأربع وثلاثون مهاجراً، وإحالتها فوراً ودون تردّد إلى أحد الموانئ الفرنسية، ما دفع القيادة السياسية في فرنسا إلى إدانة هذا الموقف باعتباره (غير مقبول)، وخارج سياقات دساتير الدول والشرعية الدولية.فقد أنشئت المنظمة الدولية للهجرة في عام 1951 م. وتعمل المنظمة الدولية للهجرة على المساعدة في ضمان إدارة الهجرة بشكل إنساني ومنظم وتعزيز التعاون الدولي بشأن قضايا الهجرة والمهاجرين والمساعدة في البحث عن حلول عملية لمشاكل الهجرة بشكلٍ عام وتقديم المساعدة الإنسانية للمهاجرين المحتاجين من اللاجئين والنازحين والمهجّرين قسراً عن ديارهم. وأبرمت المنظمة الدولية للهجرة في عام 2016 م اتفاقاً مع الأمم المتحدة (976/A70) لتصبح إحدى الوكالات الخاصة باللاجئين المتخصصة التابعة لها.
في حقيقة الأمر أنَّ الخلافات بين العديد من دول الاتحاد الأوروبي بدأت تتفاقم حول العديد من القضايا الساخنة الراهنة . بخاصة بعد وصول سفينة (أوشن فايكينغ) إلى فرنسا التي بميناء مدينة تولون جنوب البلاد وعلى متنها نحو مئتان وأربع وثلاثون مهاجرا. يأتي هذا على خلفية مواجهة دبلوماسية حادّة بين إيطاليا وفرنسا جعلت التوتر بين البلدين على أشده. وقال رئيس الهيئة الحكومية الفرنسية المعنية بالتعامل مع الأجانب واللاجئين والمهاجرين إن تسع دول من الاتحاد الأوروبي وافقت على استقبال ثلثي اللاجئين والمهاجرين مضيفاً بأنَّ الأشخاص (غير المؤهلين) للبقاء في التكتل ستتم إعادتهم إلى بلدانهم الأصلية التي جاؤوا منها.
 في سياق الخلافات بين فرنسا وإيطاليا حول سفينة (أوشن فايكينغ) الإنسانية التي تقل مهاجرين نفى ادعاءات ميلوني بموافقة فرنسا على استقبال تلك السفينة، واصفةً سلوك الحكومة الإيطالية وتوجهها بأنّه (مخالف لقانون البحار ولروح التضامن الأوروبي) الذي أقرته قيادات الاتحاد الأوروبي بالإجماع، وداعية الحكومة الإيطالية إلى احترام التزاماتها الأوروبية المتفق عليها في إطار الاتفاقيات الموقعة بينها التي كانت تنظم تقاسم أعباء الهجرة واللجوء إلى دول الاتحاد الأوروبي وتم بذلك تشكيل لجان متخصصة جعلت من اليونان مقراً لها.
وفي نهاية الأمر، انفجر الخلاف بينهما علناً، وتبادلت إيطاليا وفرنسا الاتهامات والتصريحات الحادّة بينهما، على نحوٍ قاسٍ جداً بات يهدِّد وحدة دول الاتحاد الأوروبي والتضامن فيما بينها إزاء موضوع الهجرة والمهاجرين، ما دفع المفوضية الأوروبية إلى التدخل السريع لاحتواء الخلاف ومنع تفاقمه والحد من تداعياته. وتقرَّر عقد اجتماع استثنائي في العاصمة البلجيكية بروكسل، بدعوة من فرنسا، بمشاركة وزراء الداخلية في الاتحاد الأوروبي في مسعى جاد لحلّ الخلاف بين فرنسا وإيطاليا، ومسألة اللاجئين من أوكرانيا، والبحث بشكلٍ عملي في كيفية وقف تدفق المهاجرين إلى القارة الأوروبية العجوز.
لكن لا يبدو أن مثل تلك اللقاءات وهذه الاجتماعات قادرة بشكلٍ عملي على فعل ما هو أكثر من التهدئة،وترطيب الأجواء بين المتنازعين نظراً للسياسة المتشددة التي تتبناها رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني بشأن الهجرة ويتقاسمها معها شريكها في التحالف اليميني الشعبوي المتطرِّف ماتيو سالفيني رئيس حزب (رابطة الشمال)، وبالتالي لا ينتظر أن تتراجع رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني عن هذه السياسة التي كانت جزءاً رئيسياً وهاماً في حملتها الانتخابية وبسبب قاعدتها الانتخابية التقليدية الواسعة المناهضة للهجرة وللمهاجرين.
ويرى بعض الخبراء الاستراتيجيين وبعض المحللين السياسيين أنَّ موضوع الهجرة والمهاجرين كان أحد الأسباب الرئيسية الكبيرة في تنامي المشاعر المناهضة للمشروع الأوروبي في إيطاليا والرافضة له، وفي تعطيل إصلاحات وتغييرات كبيرة عرضتها المفوضية الأوروبية على الأعضاء منذ أكثر من عامين.
calendar_month28/11/2022 03:22 pm