
تم استخدام العنف في جميع انحاء العالم أداةً للضغطِ والتأثير على الآخرين، لذا فقد حظي العنفُ باهتمامٍ كبيرٍ من قِبَل الأديان والشرائع والقانونيين والمشرعين .كما حظى العمل الفكري والثقافي والمعرفي باهتمامٍ كبير بظاهرة العنف ، حيث يسعى كلاهما إلى رفض ظاهرة العنف وقمعها ، ومنع تفشيها بين الأفراد والمجتمعات . كما أنه من الممكن أن يتخذ العنف صوراً وأشكالاً عديدة تتجلى في أيِّ مكانٍ على وجهِ الأرضِ.
يبدأ العنف في البداية من مجرَّد الضرب والاشتباك بين شخصين والذي قد يسفر عن إيذاء بدني ونفسي وينتهي بالحرب والإبادة الجماعية التي يفقد فيها الملايين حياتهم ومستقبلهم . مع علمنا المسبق أنَّ العنفَ لا يقتصرُ على العنفِ الجسدي الفردي ، أو في مجتمعٍ محدَّدٍ فحسب ، بل على العالم أجمع.
لقد احتار علماء الاجتماع وعلماء النفس والسياسة ، والاقتصاد والدين ، والقانون وغيرهم ، في التعبير عن ماهية العنف وإشكالياته وأسبابه ، ولم يتفقوا على أنَّ العنفَ ظاهرةٌ قائمة منذ فجر التاريخ الإنساني . مع أنها مشكلة تاريخية متأصّلة في ثقافات الأفراد والشعوب والأقوام في العالم، ولا بدَّ من التصدي لها والحدّ من انتشارها
. لقد أجمع العلماء على تنوع اختصاصاتهم أنَّ العنف وليد الفقر والحاجة والتعصب الأيديولوجي ، والتفاوت الطبقي ، والصراع الاجتماعي والسياسي ، والديني والطائفي والمذهبي ، والقومي، وجميع أنواع العنصرية والتمييز والاستعلاء ، واختلالات نفسية وشخصية ، وضعف في القانون وطريقة تطبيقه ، وغيرها .
من الواضح أنَّ من يلجأ إلى العنف لا بدّ أن يعيش حالةً من التعصّبِ ، والمتعصّب يعتقد دائماً بأحقيّته وأفضليته على الآخرين ، ولديه (الأنا) متضخمة إلى حدٍ غير مقبول، ويزعم المتعصِّب امتلاكه وحده للحقيقة. والتعصب يولِّد التطرّف بأشكاله المتعدِّدة ، فقد عمل المتطرفون لأفكارهم وآرائهم واعتقاداتهم على تطبيقها عن طريق العنف والإكراه . لأنَّ التعصّب يفضي إلى تصرفاتٍ تنطوي على مواقف دون التدقيق أو التمحيص بسبب الحماس المفرط والغيرة ، فقد أكّد الفيلسوف والشاعر والروائي الإسباني جورج أوغستين نيكولاس رويز دي سانتايانا Jorge Agustín Nicolás Ruiz de Santayana y Borrás) والمعروف بجورج سانتايانا،بتفصيلٍ شديد حول التعصّب ودوره في العنف ، وكان قد عرَّفَ التعصّب بأنّه ( يضاعف مجهودك عندما تنسى هدفك) . يظهر المتعصب مقاييس ومعايير صارمة للغاية ، ولا يتسامح تجاه آفكار وآراء المعارضين له إلّا قليلاً.
يُعرّف تينو ليشتسار مصطلح التعصب على أنه السعي الحثيث وراء الدفاع عن بعض القضايا بطريقةٍ متطرفة وغير عقلانية ، وتتسم بالعاطفية التي تتجاوز الحدود الطبيعية . ومنها أيضاً التعصّب الديني الذي هو الإيمان الأعمى لنصوص دينية مقدّسة ، والاستعداد لاضطهاد كل المعارضين بالعنف والإكراه والقسر، وهو فقدان للحقيقة وغياب عن وعي الواقع . كما كتب الباحث الأمريكي نيل بوستمان Neil Postman كتاباً هاماً بعنوان : (حديث مجنون، كلام مجنون (Crazy Talk Stupid Talk يؤكِّد فيه أنَّ : (مفتاح كل المعتقدات المتعصِّبة هو أنها تؤكد نفسها بنفسها. وتعتبر بعض المعتقدات متعصبة ليس لأنها خاطئة ولكن بسبب التعبير عنها بطريقة لا يمكن أبدًا إظهارها كاذبة. (
وهكذا ينجب التعصّب التطرّف الذي يتسم بالعنف والتحوّل من الفكر والمعرفة إلى الفعل العملي فيُصبح منهجاً وسلوكاً. وإذا ما ضرب العنف بشكلٍ عشوائي فإنَّه يتحوّل إلى إرهاب . الذي يشمل تخويف السكان الآمنين أو الحكومات أو إكراههم ، من خلال ارتكاب العنف وممارسة الاضطهاد والإجبار والقسر والتهديد . وإذا كان هدف الإرهاب إضعاف الدولة وفقدانها ثقتها بنفسها وإضعاف ثقة المواطنين بها ،هو من أجل هزيمتها من الداخل ،أمّا إذا كان الإرهاب عابراً للحدود صار إرهاباً دولياً ، مع العلم أنَّ هناك دول إرهابية أو تمارس الإرهاب المنظم .
من الضروري الحديث في هذا السياق أنه إذا كان العنف منتشراً وسائداً في العالم عبر التاريخ في جميع المجتمعات البشرية ، لا يمكن أن يضبط إيقاعه ويكبح من جماحه إلّا القانون وحكمه الذي يُعتَبَرأحد مقاييس ومعايير القوانين الشرعية الدولية التي حققت وتحقق حضورها الواقعي والمنطقي . بخاصة إذا تمّ تطبيقه عملياً وفقاً لمبادئ المساواة على الجميع دون استثناء، حكّاماً ومحكومين رؤساء ومرؤوسين ، فالقانون حسب القاضي ورجل الأدب والفيلسوف السياسي الفرنسي شارل لوي دي سيكوندا Charles Louis de Secondat) المعروف باسم مونتيسكيو (Montesquieu)(1689 ـ 1755) م (مثل الموت لا ينبغي أن يستثني أحداً أبداً).
الجدير بالذكر أنَّ حكم القانون هو الذي يعطي الدولة قوتها وصلابتها ويعطيها سمة الدولة المدنية أو الدولة الدينية ، فإذا كانت تملك ناصية تنفيذ القانون فإنَّ الدولة تكون قد حققت فكرة الدولة بالعدالة والحق . والمهم في هذا السياق هو ربط الدولة بفكرة المساواة والحق والعدل ، مع أننا نرى دولاً ديكتاتورية وفاشية واستبدادية تنادي بالعدالة والحق والمساواة دون تحقيق أيّ منها عملياً ، بل إنَّ بعض تلك الدول العلمانية تبالغ في عدائها للدين . في المقابل نجد أنَّ هناك دولاً تسعى لتطبيق الشريعة بطريقةٍ عنفية تسلطية وتعسفية .
في حقيقة الأمر يمكننا القول بأنَّ الدولة تحتكر العنف على منطقة جغرافية محدّدة ، فقد وصف ذلك الفيلسوف وعالم الاجتماع والمؤرخ والفقيه الألماني ماكسيميليان كارل إميل فيبر المعروف بـ (ماكس فيبر) ( 1864 ـ 1920) م في مقالته الهامة بعنوان : (السياسة) باعتبار السياسة مهنة . كان ذلك عام (1919) م والتي يزعم فيها أنَّ الدولة Gemeinschaft) هي المُجتمع الإنساني الوحيد الذي يدّعي احتكار الاستخدام الشرعي والقانوني للقوة البدنية. ومع ذلك، يقتصر هذا الاحتكار على منطقة جغرافية محدَّدة ، وفي حقيقة هذا الاقتصار على منطقة محدّدة هو واحدة من الأمور التي تحدِّد الدولة) بمعنى آخر وحسب رأي الفيلسوف الألماني ماكس فيبر يصف الدولة Gemeinschaft بأنها أيّ منظمة أو قوّة سياسية أو أمنية أو عسكرية تنجح بالاحتفاظ بالحق الحصري في استخدام القوة البدنية أو التصريح بها ، أو التهديد بها ضدَّ المواطنين ، أو ضدَّ سكان إقليمها ، مثل هذا الاحتكار للقوة البدنية يجب أن يحدث عبر القانون والتشريعات الناظمة . كما يعتبر احتكار العنف عبر الاستخدام الشرعي والقانوني للقوة البدنية مفهوماً أساساً للتشريعات والقوانين العامة الحديثة . فقد كتبَ الفيلسوف الفرنسي وصاحب نظرية السيادة جان بودان Jean Bodin(1530 ـ 1596) كتاب ( منهج لتيسير فهم التاريخ) عام ( 1566) م وكتاب ( الجمهورية) باعتباره المفهوم المحدّد للدولة . وبالعودة إلى نظرية الفيلسوف ماكس فيبر فقد عرَّف العنف بشكلٍ موسَّع بأنَّه يرتبط وجود الدولة وهيمنتها وسطوتها بمدى تطبيقها لاحتكار الاستخدام الشرعي والقانوني للقوة البدنية في تنفيذ أوامرها . فقد تم إضفاء الطابع الرسمي على المفهوم الذي قدمه الفيلسوف الألماني ماكس فيبر لإظهار أنَّ القوة الشرطية الحصرية للدولة تفيد تحقيق الرفاهية الاجتماعية عن طريق الملكية الخاصة لاحتكار القوة دون غيرها ، شريطة أن يكون سلوك الدولة تجاه مواطنيها بشكلٍ صحيح ولصالحهم . ووفقاً لنظرية ماكس فيبر فإنّ الدولة وحدها القيام بالعنف المشروع داخل منطقة محدّدة من خلال الشرطة والجيش ، وهما الأداتان الرئيسيتان لتحقيق ذلك ، أيضاً يمكن في حالاتٍ خاصة أن يعتبر الأمن الخاص أو الشخصي أيضاً حقاً قانونياً وشرعياً في استخدام العنف طالما توافق الدولة كونها المصدر الوحيد لهذا الحق .
يُجادل عالم السياسة الأمريكي روبرت هنريكس باتس Robert Hinrichs Bates بأنَّ الدولة نفسها ليس لديها قوة عنيفة. عوضاً عن ذلك، يمتلك المواطنون كل قوة الإكراه لضمان بقاء النظام العام وغيره قائماً .وهذا يدلُّ دلالةً واضحةً على أنَّ هناك حدود للرفاهية والعيش الرغيد في المجتمعات بلا دولة ، والتي لا يمكن تجاوزها إلا إذا تم استخدام مستوى من العنف أو الإكراه لرفع درجة تعقيد الدولة. أي، بدون الاستثمار في القوات مثل الشرطة أو الجيش، أي نوع من آليات التنفيذ.
من جهةٍ أخرى فقد رأى عالم الاجتماع الفرنسي رايموند آرون Raymond Aron ، أنَّ العلاقات الدولية تتميز بغياب الشرعية المعترف عليها على نطاق واسع أي (احتقار العنف) في التعامل بين الدول.
أمّا الكاتبة والقاضية الأمريكية مارثا إليزابيث فيلبس Mary Elizabeth Phillips) ،فإنَّها تأخذ الكتابة في السياسة من أفكار ماكس فيبر حول شرعية الأمن الخاص خطوة إلى الأمام. تدَّعي مارثا إليزابيث فيلبس أن استخدام الدولة للجهات الفاعلة الخاصّة يظل مشروعاً وقانونياً إذا كان العسكريون خاضعون للدولةِ تماماً. فكما تملك الدولة الحق باستخدام العنف مثلما تملك الدولة السلاح لذا لا يجب استخدامه إلا ضمن القوانين والتشريعات الناظمة ، حتى ولو مارست الدولة العنف بالإكراه وبطريقةٍ تعسقية أو خاطئة ، في هذه الحالة يمكن الوقوف ضدها وضد العنف في الوقت نفسه ، لكن لا يجوز منافستها باللجوء إلى العنف المضاد القسري .لأنَّ العنف يخضع للقانون الدولي سواء كان عنفاً شخصياً أو أسروياً بخاصة ضد الأطفال أو ضدَّ المرأة ، أو في أي مكان من تجمعات المجتمع أو تحت مزاعم ثقافية ، أو فكرية ، أو جهوية ، أو مناطقية ، أو قبيلية عشائرية ، أو غيرها .في هذا السياق يكون الإرهاب خاضعاً في جزء منه للقوانين والتشريعات الوطنية وجزءٌ منه يخضع للقانون الدولي . من خلال اعتبار أعماله العنفية والتعسفية بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة ، وجرائم الحرب ، وكل دولة من دول العالم لها قوانينها وتشريعاتها لمحاربة الإرهاب واقتلاع جذوره الاجتماعية ، والثقافية ، والاقتصادية ، والنفسية ، وغيرها . نحن ندرك أنَّ التعصّب يمكن أن يكون شخصياً إذا لم يتحوَّل إلى سلوك ضد الآخر لدواعي سياسية ، أو قومية ، أو دينية ، أو حزبية ، أو عائلية ، أو قبلية عشائرية ،أو حتى تربوية . لكنَّ هذا التطرّف يصبح مرفوضاً لأنه سيكون خطراً على المواطنين والدولة معاً ، وسيعبث بالاستقرار والسلم الأهلي .
من المؤسف القول إنَّ العنف قد عمَّ معظم المجتمعات الإنسانية على الصعيد الداخلي والفردي المجتمعي والصعيد الدولي ، كما عانت وما تزال شعوبنا العربية والإسلامية تعاني من العنف بشكلٍ متزايد ، فلو أخذنا نماذج من العنف الممارس في بلادنا العربية على مستوى المؤسسات والإدارات والهيئات الحكومية وبخاصة منها التعليمية والتربوية ، حيث نجد في المدارس والمعاهد والجامعات ممارسة ثقافة العنف والقسر والإجبار ، وهذه الثقافة مغروسة في أذهان وشعور الطلاب من خلال طرائق التدريس القاسية . ولا نجد أرضية مرنة لتدريس ثقافة اللاعنف .ولأهمية هذه الثقافة ، أي ثقافة اللاعنف ، فقد خصصت الأمم المتحدة يوم الثاني من تشرين الأول من كل عام اعتباراً من عام 2007 م هو يوم للا عنف العالمي . وهذا اليوم هو لنشر ثقافة اللاعنف.
وكان الفيلسوف وعالم المنطق والمؤرخ والناقد الاجتماعي البريطاني برتراند آرثر وليام راسل Bertrand Russell (1872 ـ 1970) م قد قدَّم تعريفاً للاعنف بأنَّه سلوك عقلاني من أجل الابتعاد عن الصراعات ، بمعنى أنَّ مصدر اللا عنف من العقلانية والابتعاد عن النزاعات والصراعات من جهات معيّنة لغرض إشاعة الأمن والأمان والسلم والتعايش ، وقبول الآخر وإقناع الآخرين أنَّ الحروب والنزاعات والصراعات ستؤدي لا محالة إلى الدمار والخراب وهلاك الشعوب والمجتمعات وممتلكاتهم .
ان استخدام العنف والقسر والإجبار والقوة المفرطة عبر التاريخ ، أدى إلى سقوط الحضارات والممالك والدول وأحدَثَ الويلات والخراب والدمار.
من هنا فإن نشر ثقافة اللّاعنف المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحكم القانون والعدل والحق ، هي كفاح ضد السائد والمتداول عبر التاريخ الإنساني، ففي داخل كل إنسان هناك نزعات تسامحية سلمية لا عنفية لها علاقة بما يسمى بالأنسنة، لأن الإنسان أخ الإنسان منذ الخليقة ، والصراعات والنزاعات تأتي بسبب الاستغلال وتضارب المصالح والرغبة في التحكّم والهيمنة تحت عناوين مختلفة، فضلًا عن بعض الحالات ذات الأمراض العصابية المعروفة بالطب النفسي ، وهذه جميعها تتغذّى على ثقافة الحقد والكراهية والكيدية والثأر ، وإقصاء الآخر.
ما نحتاج إليه هو إعادة النظر في مناهج التربية في بلداننا العربية لرفع كل ما له علاقة بالعنف والقسر والإجبار والإكراه ، أو التشجيع عليه ، أو عدم المساواة ، أو تبرير أعمال التمييز، وذلك من خلال الحوار المتوازن البنَّاء ، فالحوار المتوازن بين الجميع ضرورة لا غنى عنها لنشر ثقافة اللّاعنف والتعايش السلمي والأخوي وقبول الآخر ، والاعتراف بالحق في الاختلاف والتنوّع، وهو ليس شكلاً من أشكال الترف الفكري والثقافي والمعرفي بل هو ضرورة حتمية .