
الحياة برس - جاكي خوجي
قبل نحو شهرين في ذروة أزمة الحرم، أعلن أبو مازن تجميد التنسيق الأمني مع إسرائيل. «التنسيق الأمني» هو الاسم السري للتعاون على أعلى المستويات بين أجهزة أمن السلطة والجيش والمخابرات الإسرائيليين، في ملاحقة نشطاء حماس، الجهاد الإسلامي ومجرد الأفراد الذين يسعون إلى تنفيذ عمليات طعن. وتتواصل هذه الاتصالات منذ نحو عقد من الزمان، لكنها أخذت تتعزز كلما مرت السنوات. لن نعرف حياة كم من الإسرائيليين والفلسطينيين نجت بفضلها.
في الغالب كانت إسرائيل هي التي توفر المعلومات الاستخبارية عن خلية تخطط لعملية، فينطلق الفلسطينيون لاعتقاله. هكذا كانت تعفى إسرائيل أيضا من الخطر في تنفيذ الاعتقال، وجع الرأس الذي ينطوي عليه والمس بصورتها. أما السلطة من جهتها، فحصلت على الهدوء، قصقصت رؤوس خصومها من الداخل وعززت صلاحياتها. بهذه الطريقة اعتقل مئات القتلة المحتملين.
طالبت حماس من السلطة قطع هذه العلاقات ورأت فيها خيانة. أما أبو مازن فرفض بعناد بل سار بعيدا وقال: إن التنسيق الأمني مع إسرائيل مقدس. من يبدو له هذا الاتصال مسلما به، فلينبش في ذاكرته ليتبين شخصية ياسر عرفات. معظم أيام عرفات رئيسا للسلطة كانت عديمة التنسيق، لكنها كثيرة سفك الدماء. وعندما سيكتب التاريخ الاستخباري للاتصالات بين الطرفين، سيكرس لأبي مازن فصلا بحد ذاته. رئيس السلطة كان الشريك الفلسطيني الأكبر لإسرائيل في كفاحها ضد الإرهاب الذي ليس عميلا لها.
إذا؛ ماذا تبقى من تصريحه في 21 تموز/ يونيو؟ تكتشف محافل أمن فلسطينية بأن جهاز المخابرات العام، الذي يرأسه ماجد فرج، استأنف اتصالاته مع الجيش والمخابرات الإسرائيليين. أما الجسم الثاني جهاز الأمن الوقائي بقيادة زياد هب الريح، فيواصل إجراءها كالمعتاد. فرج 55 سنة، هو الجنرال الأقرب لأبي مازن. ابن لعائلة لاجئين من القدس تربى في مخيم الدهيشة. وعُرفت عائلته بقربها من الجبهة الشعبية. أبوه علي، الذي كان نشيطا، قتل بالخطأ بنار قوات الجيش الإسرائيلي في أثناء الانتفاضة الثانية في بيت لحم. ويذكر فرج كأحد الشخصيات التي يمكن أن تقود السلطة في المستقبل. وللتعويض عن خسارة الشريك الإسرائيلي، أمر رجاله في الشهرين الماضيين تصعيد نشاطهم الأمني لإحباط العمليات واكتشاف المؤامرات في أوساط الفلسطينيين في الضفة.
إن التعاون مع السلطة ذخر وطني لإسرائيل. في إسرائيل يرون في تجميد التعاون وضعا خطيرا، من شأنه أن يؤشر إلى بداية التدهور. وعليه فإنكم لن تسمعوا هذه الأيام عن آثار التجميد من محافل رفيعة المستوى في إسرائيل. فهؤلاء يتحسسون بصمت طريقهم نحو أبي مازن على أمل أن يتراجع عن القرار. يتحسسون، ويصلون ألا تقع عملية تهز الأطراف جميعهم. ولكن في هذه الأثناء ولدت مشكلة جديدة.
في الأشهر الأخيرة تتكاثر المؤشرات إلى تغيير في الأداء اليومي لأبي مازن. إذ تفيد تقارير من داخل المقاطعة بأن الرئيس يكثر من التصرف بعصبية في المداولات الداخلية، يسكت المحيطين به ويتعامل معهم بزجر.
وفي موجات العصبية هذه لا تشعر بها إسرائيل فقط بل وحماس في غزة أيضا، التي ألقى عليها أبو مازن ضربات أليمة في الأشهر الأخيرة، ورجال فريق السلام الأمريكي ممن عانوا من زجره.
من يعرف محمود عباس يعرف أنه لم يكن كذلك وبالتالي فإن المعلومات عن سلوكه تبعث على التخوف من أن العمر بدأ يفعل فعله. فهو ابن 82، يدخن بشدة، ومؤخرا ساءت حالته الصحية، ويرافقه طبيب في معظم ساعات اليوم.
تخيلوا إن في السنة القريبة المقبلة تدهورت صحته أكثر فأكثر، ليجد صعوبة في الحكم أو يعطي صلاحياته للآتين بعده. وسترث إسرائيل حاكما فلسطينيا جديدا عديم الثقة، ومعه أيضا علاقات استخبارية جزئية. في الاتصالات الحساسة مع رام الله هذه وصفة للمشاكل.
من رب البيت؟
في الوقت الذي تكتب فيه هذه السطور، تجري قمة قيادة حماس زيارة مهمة إلى القاهرة. إسماعيل هنية، خليفة خالد مشعل في رئاسة المكتب السياسي، سافر مع حاشيته في أول رحلة له منذ تسلمه مهام منصبه، وأساسها سلسلة محادثات مع رؤساء المخابرات المصرية. ومن هناك سيواصلون إلى تركيا وقطر.
كلنا، صحافيون ومحررون على أنواعنا ممن نغطي هذه الرحلة، نركز على مساعي حماس لانتزاع فتح معبر رفح من المصريين. خطوة كهذه ستعطي الغزّيين بوابة خروج إلى العالم وإزالة جزئية، وإن كانت مهمة للإغلاق. بالنسبة لسكان القطاع ستكون هذه خطوة دراماتيكية. أما بالنسبة لإسرائيل، ففتحة للقلق. وبالنسبة لمصر ـ عودة إلى التطبيع مع الجيران.
قلة يعرفون أن السبب الأساس الذي يجعل المصريين يسارعون إلى فتح المعبر ليس إسرائيل، ليس حماس وليس داعش. إنه المال الكبير ـ خلاف شديد بين مراكز القوى في القيادة المصرية بالنسبة لمسألة من يحفظ الامتياز على المعبر. من يسيطر على المنطقة يتمتع بأرباح الضريبة التي يفرضها المعبر على من يجتازه. صحيح أن المستفيد الرسمي هو صندوق المالية المصري، لكن المستفيدين عمليا من ملايين الدولارات في الشهر هم محافل الأمن الذين يعملون كاتحاد اقتصادي. هم الإقطاعيون، أرباب البيت.
يتقاتل جهازا أمن على السيطرة في معبر رفح. واحد أمسك به بشكل تقليدي، أما الثاني فيجني لنفسه جزءا من المكاسب. في اليوم الذي تقرر فيه القاهرة كيفية توزيع غنيمة اللحم بينها وبين نفسها، سيتمتع سكان القطاع بمعبر حر.
ومن هو الضيف؟
لقد كانت النخبة السياسية منشغلة هذا الأسبوع للحظة بالتخمينات عن الزيارة لإسرائيل من شخصية رفيعة المستوى من إحدى الدول العربية في الخليج. بدأ هذا بمنشورات مترددة من صحافيين إسرائيليين، سمعوا عن زيارة من دون أن يعرفوا هُوية الزائر.
وتواصل هذا بتصريح من وزير الاتصالات أيوب قرا لوكالة الأنباء الأمريكية «بلومبرغ»، جاء فيه إنه وصلت بالفعل إلى البلاد شخصية من الخليج بل التقته، وانتهت بمتصفح يحمل اسمًا سريا من اتحاد الإمارات، يعرض نفسه ضابط أمن، ادّعى في «تويتر» بأن الضيف المبجل ليس سوى الأمير محمد بن سلمان، ابن الملك السعودي، الرجل القوي في المملكة. حتى هنا الحقائق (أو تلك الناشئة عنها).
والآن إلى الاستنتاجات. لأيوب قرا تفوق مميز على وزراء الحكومة. لغة الأم لديه هي العربية، وهو يعرف العالم العربي أفضل من رفاقه في الكابنت كلهم. وبرغم ذلك، لو وصلت إلى هنا شخصية رفيعة المستوى بهذا القدر، مشكوك فيه أن تلتقي وزيرا بمستواه.
واستخدام التغريد على التويتر هو درس في الاتصالات الرخيصة. فالحديث يدور عن معارض مجهول، يمقت النظام في أبو ظبي والسعوديين، واحد لا يعرف الكثير، ولكن يسعده أن يشهر بكارهيه. في سلم جودة المصادر، واحد مثله يوجد تحت الصفر.
بقينا مع التخمين. مسؤولون وزعماء عرب، ليس لإسرائيل اتصال رسمي مع حكوماتهم، معقول أن يأتوا ويخرجوا من هنا. ومبعوثون إسرائيليون يزورون بلدانهم. في هذا المجال، كونوا واثقين من أن الخيال يفوق الواقع. ولكن الجهات التي تستضيف المسؤولين العرب منضبطة جدا. شيء لا يتسرب للصحافة وفي الغالب لا يتسرب للوزراء أيضا.
إذا كان وزير في الحكومة يكشف للصحافيين عن وجود هبوط حساس لشخصية عربية، ستكون واحدة من إمكانيتين: إما أن هذه الشخصية لا تحمل مكانة رسمية أو أنها ليست رفيعة المستوى.
معاريف ـ 15/9/2017