الحياة برس - من الذي اخبرك عن موته لا احد , بل ظننت انه رحل لا صوته ولا طيفه ولا حتى كلماته المتقطعة , لحديث عابر عبر هاتفه , فقلت في نفسي , قد يكون رحيله كمثله , لا يؤثر ضجيجه و يعشق الهدوء وصعب المجادلة, وحين يشد الاخر بحديثه, يتوارى بغضبه خلف جدار الصمت, و يهمهم بصوت شجي دافئ , وكانه يغني مقطوعة من كلماته والحانه, الغريب لم ننس شيئاً من طباعه, ولم نذكر اكثر مما تحدثنا عنه مرار وتكرار طوال العشر سنوات الماضية , لم ادرك صعوبة ان تنتظر احد لا تعلم اين هو ؟َ! تظن بانه هنا , باي لحظة سيفتح الباب ويلقِ التحية ثم يقترب ليسدل جثته المنهكة , بعدما يساله البعض منا هل تعبت اليوم؟؟ فيبتسم نعوذ من شره وشروره , لا يسكن فينا التعب, مادام الخير في زرعنا , ونأمل ان يكون حصادنا من ذاك الذي يتعب , وضميره يشع كما ذاك النجم الذي يكسر عتمة الوجود بطلتهِ البهية , و يا بهاءة كم زاد السماء جمالا ,عيون ساهرة في نهار الواقع , تخاطب وتجادل وتدافع عن سبيل الصفاء , وعيون نائمة في ليل الخيال تقرع ابواب الوهم, وتخاطب الواقع بعنجهية تلك العيون الخيالية , كيفما مضت لن ترَ سوى طيف الحقد يعكس سواده على وجه الكون , صوت ابنته الصغيرة تقول: يا ابتي متى نأخذ امتعنا ونرحل عن هنا , نظر مندهشاً اليها !! نرحل؟؟ كيف ونحن لم يمر شهرين على مجيئنا لهذا البيت يا ابنتي ؟؟؟! قالت الطفلة : لالا لم اقصد أن نرحل الى بيت اخر , ولكن الى البعيد فوق تلك السحب , نحلق لنلمس وجه السماء , نهض بعدما كان متكئاً اقترب من ابنته , قبض على يداها , حدق بعينيها دون اي كلمة , فتح يداه , وكانه طير فتح جناحيه , ضمها فبكى على ما قالته , هي التي تشعر بما لم يقل, هي التي تتأوه بصمت , ظلت تلك الليلة بحضنه الى ان طل الفجر بوجه الجديد ينادي الامل من نافذة الصبر , منذ عشرة ايام والخوف متربص بوقته , والدرب الذي يمضي به , جميلة تذهب للمدرسة يرافقها ثم يتوجه الى عمله , يظل يراقبها حتى تدخل , فيختفي ظل طيفها , يودعها وهي تلوح بيداها , وتصيح له لا تتأخر انتظرك , عن دون العادة رفضت ان تأتي امها لتعود بها الى المنزل بعد انتهاء الدوام المدرسي , اكدت مرار على والدها كي يترك عمله في موعد عودتها الى البيت , كي تعود برفقته . الساعة العاشرة وعشر دقائق دق هاتفه : فكان موعد اللقاء انتهى الدوام الان, وعليك ان تاتي الى المدرسة حالا , اخذ كل ما كان بحوزة الايام من قهر وقبض على فؤاد المصيبة , بشباك الصبر ,وراح يلهث وكانه شعر بهول الفاجعة قبل حدوثها , شعور وكأنك في عراء الكون دون وطن , في لحظة وصوله قالت له المعلمة : للتو اتت سيارة الاسعاف وتم نقلها الى المستشفى عليك اللحاق بها , قال لها : كم من الوقت ؟؟ قالت له : عشر دقائق , قال : لا يكفيني للوصول اليها !! قالت : بل عليك الذهاب الان المستشفى , فقط من هناك تستغرق عشر دقائق , دموعه تجري ولا يشعر , التقت به سيدة تبكي كانت ام لطالب درسه في المرحلة الاعدادية , اقترب منها وقال : هل رحلت ؟؟؟ نظرت اليه , رحل ادوارد ولم يكن سعيد , فانه كان يرغب ان يرى بلاده, انهمرت دموعه بغزارة , لطم يداه ببعضهما , قالت : وانت يا استاذ انيس من الذي ابلغك ؟؟ نظر اليها قائلا : تلك التي تنتظرني لتودعني كما ادوارد ودعك !! تبكي بحرقة ام ادوارد وهي تهذي بكلمات متتالية يكاد المرء ان يفهم القليل منها , بالأمس لم يكن به شيء قبل ان يتصل به صديقه في الساعة العاشرة ليخرجا معا , انيس يمضي حينما سمع كلماتها اصابه دوار وكاد ان يقع على الارض , ثم راح يركض مسرعا الى الداخل , التقى بطبيبها الخاص ,و قال : فرح بحالة صعبة فقد تقيأت الدم اكثر مما سبق في الايام الماضية , قال ادوارد: وماذا يعني كم من الوقت ؟؟ قال : عشر ثوانٍ عشر دقائق عشر ساعات لا اعلم !! ولكن ليس اكثر ! فانكب أنيس على الارض يجهش بكاءً مُرَّاً , ثم جاء صوت فرح : ابي يجب ان اراك اليوم ! ساعده الطبيب لينهض وقال : اقدر ما انت عليه ولكن يجب ان تتماسك امامها لو بالقليل , لكي تراها الان , دخل على الغرفة واقترب منها , لمس يداها , نظر الى عيناها, ابتسمت وقالت : ما اجمل منك سوى امي ؟! لذا لن انتظر هناك بدونكما, سأكون جيدة الى أن تاتوا , ولكن على راحتكم , اهتموا بالصغار وكونوا معهم دائما وحاربوا المرض بالقدر المستطاع , قبلها والدها وقال : سأفعل كل هذا , اغمضت عيناها وقالت: كم رمشاً عالق في جفوني؟! تنهد وكأنها تنهيده الفراق ! قالت : ماذا بك لما لم تجاوبني؟! قال: عشر رموش راحت في لحظة صمت باهتة دون معنى ., دخلت امها فصاحت بكل قواها , فقالت فرح : هذا الذي هربت منه اليوم ولا احبذ ما تفعلي يا اماه !! القي فؤادك على وجه الصبر وخذي جرعة الامل , كي تحاولي انت واياه هذا الذي اعشق , ابتي وامي سواكما لم ارَ في كوني احد, ابتسمت فنظر الى الساعة , انها تمام الساعة العاشرة مساء , قبلها ومسح على عيناها , غادرت وادوارد الطالب الى ما بعد جدار الدنيا , لمست وجه السماء , وهذا الذي ترغب , وبعد عام ونصف في لوعة الفراق , خرج انيس يوم الثلاثاء في العاشر من اكتوبر , تمام الساعة الثامنة وعشر دقائق صباحا , اصبح له ما يقارب العشر سنوات , لا خبر عنه بصحيفة , ولا تقرير طبي في مستشفى , ولا تقرير امني في سجن , ولا اسم له في سجل الايام , مجهول المصير كانه جثة حية لغياب صامت .
بقلم الكاتبة الفلسطينية بالشتات الأوروبي "باسله الصبيحي"
calendar_month24/10/2019 07:01 am